هو كتاب من العام 1993. كاتبه سياسي عتيق. مخضرم. كان من الذين شاركوا في تحريك طبخة اتفاق الطائف، مع طبّاخين آخرين، وبسبب كثرتهم احترقت الطبخة. استعادة كتابه الآن ضرورية مع الحديث عن رغبات بإنهاء الاتفاق، وعودة الحديث عن المثالثة بدل المناصفة وعن مؤتمر تأسيسي. الكتاب يحمل عنوان “الانقلاب على الطائف” (دار الجديد). أي الانقلاب على كلّ ما جرى الاتفاق عليه حينها. والأهمّ يحكي عن الظروف التي سبقت ورافقت ولحقت الاتفاق. كاتبه النائب والوزير السابق ألبير منصور. فيه يلخّص انطباعات الأطراف اللبنانية حول الاتفاق، نصاً وروحاً: “رفضه بعضهم قبل أن يقرأه، فانزوى وانعزل. ورفضه بعض آخر بعد مليّ قراءة فوعد وتوعّد وتربّص. قبله البعض على نية تنفيذه وفق مصالحه فمكر وفجر وربح. وقبله بعض آخر على أنه الحلّ الوحيد المتوفّر، فاستسلم. وقبله بعض أخير بفهم واقتناع على أنه حلّ لحاضر أليم وانفتاح ممكن على مستقبل واعد، فاضطهد وقُهر وأُبعد ونُكّل به. الجميع أصرّ ويصرّ على تنفيذه نصاً وروحاً. وأمّا أهله، فأُلقي بهم خارجاً”.
إقرأ أيضاً: قبلان يريد لبنان “الممانعة” بدل لبنان “العربي”
في الكتاب يلخّص منصور بصفحات قليلة شخصية الجنرال ميشال عون وطريقته في التفكير والحكم وعلاقته بالمحيطين به. يقول منصور ساخراً: هو “الإنسكلوبيديا بريتانيكا” من حيث المعرفة. جوابه حاضر في أيّ شأن. معرفته مكتملة في جميع الأمور. علمه تامّ. لا يحتاج مشورة ولا رأياً. وسيلة الحكم لديه الأمر فالطاعة… ويتابع منصور: إن عون كان يخاف من السياسيين ومن كلّ متمرّس بالشأن العام. وشعبوية في النهج، لإلغاء أيّ وسيط بين الشعب والقائد، وهذه سمة أنظمة التعسّف والديكتاتورية، “بل ولكلّ نهج فاشي معادٍ للفرد وللحرية”. هذا غيض من فيض التعابير التي يصف بها منصور رئيس الحكومة الانتقالية آنذاك ميشال عون في الفصل الأول من الكتاب لدى الحديث عن “واقع المأساة” ما قبل الاتفاق ومرحلة حرب التحرير. كان اللقاء الأخير بين منصور وعون في الحادي عشر من آذار من العام 1989. أي قبل ثلاثة أيام من حرب التحرير. دار حوار بين الرجلين يؤكّد المنحى الانتحاري الطائش لدى عون. بدأت حرب التحرير آنذاك من باب إقفال الموانئ والمرافئ غير الشرعية في منطقة سيطرة القوات السورية. أراد عون إقفالها بالقصف المدفعي. لم يكن يفكّر بغير هذا الحلّ. قال له منصور: إن هذا انتحار. فأجابه عون: “أنا أريد أن أنتحر”. قائد الطائرة يريد الانتحار ومعه الطاقم وجميع الركاب. هكذا ترجم منصور كلام عون. وهكذا كان. اعلن عون الحرب في الرابع عشر من آذار 1989.
لم يطبّق اتفاق الطائف. لقد جرى الانقلاب عليه باكراً، وباكراً جداً، بحسب منصور. وقد أطلق في كتابه الصادر في العام 1993 نداءً للتصحيح، للوطنيين الوحدويين الديمقراطيين، لأن “الوطني هو من ينتسب مباشرة إلى الوطن دون العبور في مضيق طائفة أو مذهب أو إقطاع”
سبق مشروع اتفاق الطائف مشاريع وفاقية كثيرة بدأ طرحها منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية، انتهت كلها إلى الفشل في حين نجح اتفاق الطائف في إنهاء الحرب، وكانت أهدافه الأساسية واضحة كما يلخّصها منصور: “تنظيم المشاركة في الحكم وبناء دولة المؤسسات والقانون على أساس الوفاق والتوازن والعيش المشترك ووحدة الوطن والشعب والمؤسسات في إطار هوية عربية ووطن نهائي مستقل”. فضلاً عن “تنظيم الانسحاب السوري من لبنان على قاعدة الصداقة والأخوة والتعاون بين دولتين شقيقتين سيدتين مستقلتين”، و”تحرير الجنوب المحتل على قاعدة الشرعية الدولية والحقوق المشروعة في مقاومة الاحتلال”. ولم يتحقّق فعلياً شيء من هذه الأهداف بشكل تامّ وواضح. الجنوب تحرّر في العام 2000، وبقيت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا محتلة، وموضوع جدل بين لبنان وسوريا وبين اللبنانيين أنفسهم. الانسحاب السوري تأخر إلى ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. أما بناء دولة المؤسسات والقانون، فُنيط بالميليشيات التي أوجد لها حلّ بدل حلّها. والحلّ كان بـ”استيعابهم” في مؤسسات الدولة، وإعطاء عناصر الميليشيات أفضلية على باقي اللبنانيين، كما أن “ميليشيا حزب الله في البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت لم تسلّم قطعة سلاح واحدة ولم تُخرج من لبنان قطعة سلاح” على حدّ تعبير منصور. ومثلها ميليشيا أمل وميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي اللتان احتفظتا بمعظم السلاح الذي كان بحوزتهما. أما على صعيد الحكم، فبدل أن يمارس من داخل مجلس الوزراء، كانت “القرارات الأساسية والهامة تتخذ كلها خارج مجلس الوزراء ثم تطرح فيه للتصديق عليها”. وهي ممارسة لمّا تزل قائمة إلى اليوم.
لم يطبّق اتفاق الطائف. لقد جرى الانقلاب عليه باكراً، وباكراً جداً، بحسب منصور. وقد أطلق في كتابه الصادر في العام 1993 نداءً للتصحيح، للوطنيين الوحدويين الديمقراطيين، لأن “الوطني هو من ينتسب مباشرة إلى الوطن دون العبور في مضيق طائفة أو مذهب أو إقطاع”. لأنه يرى أن الاتفاق تحوّل من حلّ إلى مأساة حلّ بعد ثلاث سنوات على وضعه، وسنتين على البدء بتنفيذه. اليوم بعد ثلاثين عاماً على وضع الاتفاق الذي جرى الانقلاب عليه، وتحوّله إلى عجينة يشكّلها كلّ من يصل إلى السلطة على طريقته، يعاد البحث في الانقلاب على الانقلاب. أو بالأحرى إلغاء مفاعيل الانقلاب بإلغاء الاتفاق نفسه، والعودة إلى طروحات الفدرلة والتقسيم والبحث عن صيغ جديدة للمثالثة بدل المناصفة. يقول منصور إن “مبرّرات حصول الاتفاق هي مآسي الوضع قبله”. والحديث اليوم عن إعادة النظر في الاتفاق، ترتبط بدورها بمآسي الوضع الذي نعيشه. آنذاك في العام 1989، يقول منصور: إن “آلاف اللبنانيين اقتلعتهم راجمات الشهوات والأطماع وقذائف الأوهام والغباء ورمت بهم في بلاد الغربة”. بعد ثلاثين عاماً، ربما تكون المدافع والراجمات قد سكتت. لكن الشهوات والأطماع والأوهام والغباء كلها لا تزال حاضرة!