ما نتمناه، هو أن يشكل مقتل قاسم سليماني مدخلاً حقيقيًا لاستعادة التوازن الإقليمي عبر تقليم أظافر إيران وإعادة إنتاج دورها السياسي والعسكري في المنطقة وفق قواعد جديدة، على أن يتلاقى هذا التطور مع حساسية التوق الاستقلالي المتنامي في بيئتها الحاضنة وفي النسيج الإجتماعي الذي شكّل نواة نفوذها المتعاظم في عواصم وحواضر العرب، من بيروت إلى صنعاء، مرورًا بدمشق وبغداد.
ما نخشاه، هو أن يؤسس هذا القتل لقلب الطاولة، بحيث يشكل فرصة تاريخية ومسوغًا ضروريًا تستخدمه إيران لسحق الانتفاضات الوطنية المستجدة التي بدأت تُطل برأسها من كلّ مكان، انطلاقًا من مركزية العراق وأهميته والصورة المدوية التي قدّمتها تحركاته الشعبية الهائلة والمباغتة في بغداد وكربلاء وغالبية المدن المؤثرة، وصولاً إلى الحراك الوليد في إيران والثورة المتسارعة في لبنان.
في الشكل، يظهر اغتيال الرجل وكأنّه ضربة قوية ومزلزلة أصابت إيران وتوابعها بإرباك واضح وملحوظ، وهذا ما ينسحب في بعض جوانبه على المضمون، حيث بدا أنّ القرار الأميركي بالقتل، وما لحقه من اعتراف علني وسريع بتنفيذ العملية، أوحى برغبة شديدة في نسف قواعد الاشتباك، وفي توجيه ضربة قاصمة للنفوذ الإيراني في المنطقة، لا سيّما وأنّ سليماني يُعدّ واحدًا من أهم القادة السياسيين والعسكريين على مستوى إيران والمنطقة، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
ما يصحّ في العراق يصح قطعًا في إيران، حيث أنّ الحراك المعيشي الذي أخذ يتنامى على وقع اشتداد العقوبات الأميركية سيسلك طريقه إلى سبات عميق
التداعيات السلبية تبلورت على شكل إرباكٍ وحرج موصوف أصاب مختلف القيادات الوطنية في العراق، وفي مقدمهم المرجعيات الشيعية الوازنة التي شكّلت عصبًا أساسيًا وغليظًا في الثورة الشعبية المشتعلة. ويمكن هنا أن نستحضر مختلف المواقف التي صدرت عقب الإغتيال، لندرك بأنّ ما قبل القتل مختلفٌ تمامًا عمّا بعده، وأنّ الانتفاضة التي أحرقت صور المرشد الأعلى علي الخامنئي في الشوارع وفي الساحات ستكون عاجزة تمامًا أمام هذا التطور، خصوصًا بعد مسارعة أركان الإدارة الأميركية، وعلى رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو، إلى نشر مقطع مصوّر يُظهر مجموعة من العراقيين وهم يحتفلون بمقتل سليماني. ما يضع الجميع بين خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن يكونوا إلى جانب إيران، أو في مواجهتها. وهم لن يتأخروا بطبيعة الحال عن الارتصاف مرغمين في ركاب الأولويات المستجدّة، على اعتبار أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
ما يصحّ في العراق يصح قطعًا في إيران، حيث أنّ الحراك المعيشي الذي أخذ يتنامى على وقع اشتداد العقوبات الأميركية سيسلك طريقه إلى سبات عميق. فلا وقت للترف، والأولوية المطلقة باتت تتعلق بـ “كرامة” إيران ودورها وحضورها ووجودها على مساحة المنطقة والعالم.
في المحصلة، يكتسب قتل سليماني أهمية استثنائية وتطورًا نوعيًا في كبح جماح إيران وتقليم أظافرها، لكنّ مفاعيله وتداعياته الجانبية تنطوي على تقاطع رهيب في المصلحة الاستراتيجية المشتركة، حيث يقطف دونالد ترامب انتصارًا هائلاً وناجزًا ولا غبار عليه في معركته الرئاسية المرتقبة، فيما تقبض إيران مجددًا على ناصية المنطقة، بدءًا من إعادة تطويع النسيج الاجتماعي والسياسي ضمن خرائط نفوذها، وصولاً إلى ضرب الروح الوطنية المتصاعدة، وذلك عبر شدّ العصب المذهبي وإعادة تفعيل الخطاب والأدبيات التقليدية.
عوّدتنا إيران أن نبحث دائمًا عن قراءات مختلفة وغير تقليدية أو عفوية لكل ما يلتصق بها أو يتمخّض عنها، بل لكل ما يتعلق بها من قريب أو بعيد. هذا ما لمسناه منذ اغتيالها رفيق الحريري. يومذاك استطاعت أن تعقد تحالفًا انتخابيًا بين القاتل والقتيل، بينما كانت تتحضّر لإطباق نفوذها المطلق على لبنان وعلى كل مفاصله الأسياسية والحيوية.