إفريقيا: شركات الأمن.. ترِثُ نفوذ أوروبا

2023-03-03

إفريقيا: شركات الأمن.. ترِثُ نفوذ أوروبا

بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء الفائت جولته التي ستشمل أربع دول في وسط وغرب إفريقيا، ثلاث منها هي الغابون والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي كانت مستعمرات فرنسية، ورابعتها أنغولا التي كانت مستعمرة برتغالية. يريد ماكرون اختبار علاقة جديدة مع القارّة التي تتزايد مشاعر العداء لفرنسا في بعض دولها بعد انسحاب قواتها من مالي وبوركينا فاسو إثر انقلاب على السلطة في كلّ من البلدين.

تأتي جولة ماكرون بعد يومين من خطاب له تناول فيه “سياسة فرنسا الجديدة تجاه إفريقيا”، داعياً إلى “علاقة متبادلة ومسؤولة”، متعهّداً بالقطع مع سياسات ما بعد الاستعمار السابقة (La politique africaine postcoloniale de Paris)، رافضاً “المنافسة” الاستراتيجية التي يفرضها، حسب قوله، أولئك الذين يستقرّون هناك مع “جيوشهم ومرتزقتهم”.

بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء الفائت جولته التي ستشمل أربع دول في وسط وغرب إفريقيا، ثلاث منها هي الغابون والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي كانت مستعمرات فرنسية

يعتمد الرئيس ماكرون في سياسته الجديدة محورَيْن أساسيَّين:

– الأوّل: توجيه نقد ذاتي لكلّ المرحلة السابقة ولكلّ المتمسّكين بها والاعتراف بالأخطاء التاريخية المرتكبة في التعامل مع القارّة الإفريقيّة. يقرّ ماكرون بأنّ “تقويم تأثيرنا من خلال عدد العمليات العسكرية أو الروابط المميّزة والحصرية مع القادة أو اعتبار أنّ الأسواق الاقتصادية هي أسواقنا لأنّنا كنّا هناك من قبل أو لأنّنا وُجدنا في مركز اللعبة، قد أصبحا خارج الزمن”.

– الثاني: استنهاض المؤسّسات الفرنسية على اختلافها وتشكيل محور أوروبي – إفريقي مبنيّ على القيم الأوروبية لاستدراك ما يمكن استدراكه وسط قلق من تداعيات ما يحصل في إفريقيا. يقول ماكرون: “في هذه المنطقة، وفي القارّة ككلّ، تتنازع الصين وروسيا على تأثير فرنسا والغربيين”. يمكن الجزم أنّ امتناع ثلاث من الدول الأربع التي سيزورها الرئيس الفرنسي (الغابون والكونغو وأنغولا)، إلى جانب الصين والهند، عن التصويت على قرار للجمعية العامّة للأمم المتّحدة يطالب روسيا بالانسحاب من أوكرانيا، يشكّل أحد تداعيات التأثير الروسي في قرارات تلك الدول.

أوروبا تخرج من أفريقيا؟

يحاول الوجه الفرنسي الجديد، ومن خلاله الوجه الأوروبي، البحث عن وسيلة لاحتواء نفوذ مجموعات المرتزقة التي تترعرع في إفريقيا ولا تقتصر أنشطتها على المجال الأمني، بل تتعدّى ذلك إلى القبض على المقدّرات الاقتصادية لدولها في شتّى المجالات. ينذر تطوّر الموقف بانكفاء أوروبي يتدرّج إلى خروج كلّيّ من إفريقيا تفقد معه أوروبا رئتها الاقتصادية وجزءاً مهمّاً من انتشار رافق تاريخها الاستعماري منذ الثورة الصناعية. هذا ما جرى في مالي حيث استدعى المجلس العسكري الموالي لروسيا والممسك بالسلطة مئات من مقاتلي مجموعة “فاغنر”، اللاعب الروسي الأكثر نفوذاً في إفريقيا اليوم.

تستغلّ “فاغنر” موروث المرحلة الاستعمارية الأوروبية، وأهمّها الضائقة المالية التي تعيشها الحكومات الإفريقية التي يجذبها تقديم خدمات التعدين أو قابلية الوصول إلى الأسواق مقابل خدمات فاغنر.

هناك لستَ مضطرّاً إلى سحب الأموال من حسابك. يكفي أن تقول هنا إنّه يمكنك استغلال هذا المنجم لمدّة 25 أو 50 أو 100 عام من دون أيّة مشاكل.

وينشط الآلاف من عناصر “فاغنر” في عدّة دول إفريقية، حيث تطوّرت المجموعة إلى شبكة من العلاقات والشراكات. فبالإضافة إلى الخدمات الأمنيّة التي يقدّمها مئات المدرّبين الروس للقوات الحكومية في جمهورية إفريقيا الوسطى حيث ما زالت الحرب الأهلية مستمرّة، وإلى قتال المئات من مرتزقة فاغنر في ليبيا إلى جانب اللواء خليفة حفتر، أصبحت “فاغنر علامة تجارية” في مجال تجارة الأخشاب النادرة والسكّر والكحول وتشغيل مناجم الذهب في جمهورية إفريقيا الوسطى.

قد لا تقوى مبادرة ماكرون على تجاوز الأحداث المتسارعة، وربّما الوقت لم يعُدْ متاحاً لمبادرات تقنع الدول الإفريقية وتنقذ أوروبا، إذ يبدو أنّ إفريقيا قد أصبحت أرضاً للمنافسة، وقدر أوروبا هو الذهاب إلى هناك للقتال

“الروس هم السادة”

يقول “جوزيف بندونغا”، رئيس “الحركة الديمقراطية للنهضة والتطوّر في وسط إفريقيا (MDREC)” إنّ “الروس هم السادة في كلّ المجالات التي تجلب المال ، بما في ذلك الجمارك والضرائب”.

لم تعد فاغنر وسيلة لنشر النفوذ الروسي في إفريقيا، بل أصبحت النموذج الذي تعتمده دول أخرى للتمدّد في إفريقيا، بما يحفظ مصالحها الاقتصادية والسياسية بتكاليف مالية متدنّية، وبما لا يلقي عليها أيّ تبعات قانونية، من خلال العمل في المنطقة الرمادية وعبر الأنشطة غير القانونية إلى حدّ ما.

هكذا أصبحت المجموعة الاستشارية “دايك”، الجنوب إفريقيّة، من شركات الأمن الخاصّة التي باتت في مرمى الانتقادات أخيراً بعدما قامت حكومة موزمبيق بالاستعانة بها لمحاربة مسلّحي حركة الشباب المتطرّفة في إقليم “كابو ديلجادو” في شمال البلاد.

كما انضمّت إلى القائمة أيضاً شركتا “كاسي” و”أكاديمي”، وهما من أكبر الشركات الأمنية الخاصة في الولايات المتّحدة، وشركة “سيكوبيكس” الفرنسية، وشركة “إيجيس” البريطانية لخدمات الدفاع، وشركة “جي فور إس” العملاقة التي أُسّست عام 1901 في الدنمارك ويقع مقرّها الرئيسي في بريطانيا. وحضرت ألمانيا عبر مجموعة “إكسليس”، وهي شركة أمن ألمانية تنشر عناصرها في إفريقيا، وعبر شركة “أسجارد” للخدمات الأمنية التي تستقطب عناصر سابقة من الجيش الألماني والشرطة.

قد يكون الرئيس ماكرون محقّاً في القول إنّ “الوقت قد حان لاتّخاذ الخيار ومعرفة العلاقة التي نريد الحفاظ عليها مع البلدان الإفريقية”، وإنّ إفريقيا ليست “ساحة خلفيّة”، ويجب الانتقال من “منطق المساعدة إلى منطق الاستثمار”، وتحقيق “نموذج جديد للشراكة” يؤدّي إلى “زيادة قوّة” الأفارقة ووضع أوروبا شريكاً مرجعيّاً في قضايا الدفاع والأمن الرئيسية.

إقرأ أيضاً: تعويضات لأوكرانيا ما بعد الحرب.. متى فلسطين؟

ربّما يحاول الرئيس ماكرون تجنّب الفخّ الذي يقوم على الردّ أو الاستجابة لاستعراض القوّة والانغماس فيه، مقدِّماً نفسه قائداً لجيل جديد يحاول تجنّب تكرار التاريخ، مؤكّداً أنّ “هناك طريقاً آخر نسلكه الآن، ومساراً آخر يتمثّل في عدم اختزال إفريقيا إلى مجال المنافسة أو الربح، وفي اعتبار البلدان الإفريقية شركاء نتقاسم معهم المصالح والمسؤوليّات”.

قد لا تقوى مبادرة ماكرون على تجاوز الأحداث المتسارعة، وربّما الوقت لم يعُدْ متاحاً لمبادرات تقنع الدول الإفريقية وتنقذ أوروبا، إذ يبدو أنّ إفريقيا قد أصبحت أرضاً للمنافسة، وقدر أوروبا هو الذهاب إلى هناك للقتال.

* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…