اختار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان منطقة الخليج لتكون المكان الذي يقصده بعد إعادة انتخابه، متمنّياً أن “تصبّ هذه الزيارات التي نجريها في فترة حرجة، في مصلحة علاقاتنا الثنائية واستقرارنا الإقليمي”.
فهل كانت الأولوية للاقتصاد أم للسياسة في جولة إردوغان الخليجية التي شملت السعوديّة وقطر والإمارات؟
للاقتصاد والتجارة حصّتهما الكبيرة، بناء على التصريحات والمواقف والتحليلات الصادرة عن الأقلام التركيّة المقرّبة من حزب العدالة والتنمية، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار مشاركة حوالي 200 رجل أعمال تركي في الجولة. لكنّ نوعية العقود والصفقات والاتفاقيات تقول أكثر وأبعد من ذلك. الهدف هو أيضاً جلب المزيد من المستثمرين الخليجيين إلى الأسواق التركية عبر خطط الخصخصة وإشراك المستثمر الخليجي في بعض الأصول في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية التركيّة.
اختار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان منطقة الخليج لتكون المكان الذي يقصده بعد إعادة انتخابه، متمنّياً أن “تصبّ هذه الزيارات التي نجريها في فترة حرجة، في مصلحة علاقاتنا الثنائية واستقرارنا الإقليمي”
هل نحن أمام سياسة تركيّة خليجيّة جديدة؟
قد تكون الإجابة من خلال العناوين العريضة التي رفعتها جولة الرئيس التركي الخليجية وأعربت عن الرغبة في تعزيز العلاقات المشتركة والتعاون الاقتصادي والاستثماري والتجاري مع الدول الثلاث. صحيح أنّ الهدف الاستراتيجي لأنقرة هو رفع حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول الخليج الذي وصل إلى 22 ملياراً في العام المنصرم وسيصل إلى 30 ملياراً في الأعوام الثلاثة المقبلة. لكنّ نائب وزير الخارجية السعودي المهندس وليد الخريجي يقول إنّ جولة إردوغان ستتمخّض عن مجموعة من النتائج الملموسة، و”سنجني ثمارها خلال الفترة المقبلة. يمكنني القول بأريحية إنّه سيتدفّق المزيد من رأس المال إلى تركيا، وسيتحقّق قسم منه فوراً وقسم آخر خلال مدّة معيّنة”.
يتطلّع إردوغان إلى تسريع خروج العملة والأسواق التركية من أزمتها المالية، وربّما كان هذا بين أولويّات جولته الخليجية. لكنّ ما يُقال عن نتائج الجولة قد يكون أكبر وأهمّ من ذلك. إذ تسعى أنقرة إلى إشراك الخليج في مشاريع تركيّة استراتيجية البعد داخل تركيا وخارجها. فمثلاً السيارة التركيّة “توغ” قد يكون إردوغان يخطّط لتصنيعها المشترك خارج تركيا بمساهمة تركية خليجية والتي ظهرت في الزيارة يقودها ولي العهد السعودي وإلى جانبه الرئيس التركي. وهناك مشروع قناة إسطنبول التي ستكون ممرّاً مائياً يجمع البحر الأسود وبحر مرمرة باتجاه بحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط، وتمويل خطط إنجازها. وهناك أيضاً المشروع العراقي الإقليمي الذي يُعدّ لربط طرق تجارية استراتيجية في آسيا وأوروبا عبر العراق وتركيا.
أكثر ما سمعناه وقرأناه في الإعلام التركي والخليجي في الأيام الأخيرة هو عبارة “بحث أوجه العلاقات الثنائية بين البلدين، وآفاق التعاون المشترك وفرص تطويره في مختلف المجالات، إلى جانب مناقشة مستجدّات الأوضاع الإقليمية والدولية والجهود المبذولة تجاهها”. وأكثر ما شاهدناه كان مراسم توقيع الاتفاقيات الجديدة للتعاونِ بين البلدين في مجالات الاستثمار المباشر والزراعة والطاقة والصناعات الدفاعية.
السعودية ومركز ثقل المنطقة
بدأ إردوغان جولته الخليجية بالتوجّه إلى جدّة حيث التقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ووليّ عهده رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان. وصل التبادل التجاري بين البلدين إلى 6.5 مليارات دولار العام الماضي. الهدف هو رفع الأرقام إلى مستوى 10 مليارات دولار على المدى القصير، و30 مليار دولار على المدى البعيد، بحسب كلام قيادات تركية.
إذاً بين أهداف إردوغان، بعد تصفير المشاكل مع دول الخليج، هو بدء حقبة جديدة من العلاقات ترمي إلى استعادة ما كان قد بدأ به قبل عقد تقريباً من دعوة هذه الدول لمواصلة الحضور الاقتصادي والمالي والاستثماري والسياحي في قلب الاقتصاد التركي.
ما يريده الرئيس التركي أيضاً، إلى جانب جذب مشاريع الاستثمار الخليجي، هو فتح طريق الخليج أمام تركيا في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية التي تقع الدول الثلاث في مركز ثقل رسم معالمها.
ربّما هناك فرصة استراتيجية لا تعوَّض، وهي معبر “أوفا كوي” الحدودي الجديد بين تركيا والعراق الذي ستكون مهمّته إنجاز الربط التجاري بين تركيا والخليج والتقريب بينهما من خلال خطّ التجارة الإقليمي الذي يجمع آسيا وأوروبا عبر تركيا في إطار مشروع عراقي إقليمي نوقش مع العديد من دول المنطقة.
يتطلّع إردوغان إلى تسريع خروج العملة والأسواق التركية من أزمتها المالية، وربّما كان هذا بين أولويّات جولته الخليجية. لكنّ ما يُقال عن نتائج الجولة قد يكون أكبر وأهمّ من ذلك
“أمن الخليج من أمن تركيا”
قد يكون هدف إردوغان الأول والأساسي هو فتح نافذة اقتصادية جديدة على الأسواق الخليجية وسط الظروف الصعبة التي يواجهها الداخل التركي في هذه الآونة. وقد يكون إردوغان يتطلّع إلى العودة بعقود واتفاقيات تصل إلى 25 مليار دولار مع الدول الثلاث، وأن يكون الخليج شريكاً أساسياً لتركيا في برامج التنمية والتعاون الاقتصادي والإنمائي خلال السنوات الخمس المقبلة.
لكنّ الرئيس التركي يريد الرجوع إلى ما قاله قبل سنوات من أنّ “أمن الخليج هو من أمن تركيا”، ويطمح إلى إقامة “حزام سلام واستقرار وازدهار حول تركيا”، كما يردّد، ومن أجل ذلك يحتاج إلى دعم هذه الدول الثلاث وقياداتها السياسية.
وصف إردوغان قطر بـ”الشريك الاستراتيجي والدولة الصديقة والشقيقة التي نحن في تعاون وثيق معها بشكل ممتاز”. وعن المحطّة الأخيرة لجولته الخليجية، قال إردوغان إنّ زيارته للإمارات تأتي بعدما “أظهرت علاقاتنا معها تقدّماً في جميع المجالات”، لافتاً إلى أنّ التجارة الخارجية التركيّة سجّلت أعلى مستوى لها في دولة الإمارات بمنطقة الخليج خلال الأعوام الأخيرة.
تتمتّع الإمارات وتركيا بثقل إقليمي ودولي متزايد، وتبادل الزيارات السياسية والدبلوماسية المكثّفة بين البلدين هي التي دفعت إردوغان على هامش مشاركته في قمّة الحلف الأطلسي الأخيرة إلى القول أمام الإعلاميين إنّه تلقّى اتصالاً من نظيره الإماراتي يسأله عن نتائج الاجتماعات، وإنّه أبلغه بدوره أنّ نقاش التفاصيل سيتمّ خلال لقائهما بعد أيام في أبو ظبي. ربّما كانت تُقلق الرئيس الإماراتي مسألةٌ طرحها وناقشها إردوغان نيابة عن أكثر من طرف في القمّة، وهي مبادرة سعودية تركية إماراتية مشتركة لحلحلة ملفّ الأزمة بين روسيا وأوكرانيا.
زوّار ما قبل وبعد إردوغان؟
غابت الأقلام والأصوات التي كانت تصبّ الزيت وتحرّك الرماد عن المسار الجديد. ربّما هذا هو الدرس الأوّل. لكنّ العودة إلى التصالح والتطبيع لم تكن سهلة، والثمن الذي قُدّم كان مكلفاً بعد الاختراق السياسي والاقتصادي الكبير الذي سُجّل في العلاقات التركية الخليجية في عام 2016. يركّز الداخل التركي على إبراز الجوانب الاقتصادية في جولة إردوغان الخليجية وما سيعود به من عقود واتفاقيات تجارية، وهي مسألة مهمّة طبعاً في هذه الظروف الماليّة الصعبة التي تمرّ بها تركيا. لكنّ الجانب الآخر من الجولة مهمّ أيضاً، وهو استكمال الشقّ السياسي في الحوار التركي الخليجي ذي الطابع الثنائي والإقليمي للحؤول دون وقوع انتكاسة أخرى تعيد المنطقة إلى خطّ البداية كما حدث قبل 6 سنوات.
سترصد القيادات التركية عن قرب تحرّكات وزيارات العديد من القيادات السياسية لدول فاعلة في المنطقة والعالم، وهي تتحرّك باتجاه الدول الثلاث التي يزورها إردوغان اليوم. لكنّها سترصد أيضاً عدد الزيارات التي تقوم بها قيادات هذه الدول الثلاث وبأيّ اتّجاه تتمّ، وهو المعيار الذي قد يساعد أنقرة في رسم سياستها الخليجية الجديدة. إردوغان في الخليج، لكن من المهمّ أيضاً رصد من الذي سبقه إلى هناك ومن الذي سيحضر بعده.
إقرأ أيضاً: إردوغان: “إنت معلّم ومنك نتعلّم”
بقي القول إنّ من حقّ إيران أن تقلق أكثر من غيرها وهي ترصد نتائج الجولة الخليجية السريعة والخاطفة للرئيس التركي التي شملت أبرز اللاعبين المؤثّرين هناك، ومنها إبرام عشرات العقود والاتفاقيات التجارية والاقتصادية والعسكرية بقيمة مليارات الدولارات. لكنّ أهمّ هذه الصفقات التي قد تعنيها قبل غيرها هي التفاهمات المعقودة لبيع تركيا المزيد من مسيّراتها “بيرقدار” في الخليج.
لا نعرف على وجه التحديد قيمة الصفقة التركية السعودية الأخيرة ولا مضمونها، وهل تشمل جوانب أكبر وأهمّ مثل التصنيع المشترك للمسيّرات التركيّة التي أثبتت فعّالية ونجاحاً كبيرين على أكثر من جبهة قتالية في السنوات الخمس الأخيرة، لكنّها بالنسبة لطهران خطوة قد تغيّر لعبة التوازنات العسكرية إلى جانب السلاح النوعي الذي امتلكته الرياض في الأعوام الأخيرة وساهم في رفع مستوى جاهزيّتها العسكرية والدفاعية في الإقليم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@