وفّر النزاع الروسي الأوكراني لعدد من الدول العربية، كالسعودية والإمارات والمغرب، فرصة مهمّة لخدمة مصالحها الاستراتيجية. استضافة المملكة العربية السعودية للمحادثات حول الأزمة الأوكرانية في جدّة وبمشاركة مسؤولين كبار من نحو 40 دولة من بينها الولايات المتحدة والصين والهند، هي آخر الإشارات المهمّة في هذا الاتجاه السياسي.
سبق أن كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نجم القمّة العربية التي استضافتها المملكة، في حين تُعدّ روسيا شريكاً استراتيجيّاً للسعوديّة، لا سيّما في إطار “أوبك بلاس”.
ترى الرياض في الحرب الروسية الأوكرانية فرصة لإعادة تعريف دور المملكة وموقعها في السياسات الدولية كصانعة سلام واستقرار. يأتي ذلك ردّاً على سيل الدعاية المضادّة لها والتي حاولت تصويرها، نتيجة حرب اليمن، بأنّها لاعب مشاغب وعنصر تخريب للأمن والاستقرار العالميَّين.
على الرغم من العقوبات الغربيّة المتعلّقة بأوكرانيا على موسكو، ازداد التعاون الاقتصادي بين روسيا والإمارات بشكل كبير. تشمل التجارة البينيّة تدفّقاً كبيراً للنفط الروسي والمعادن النفيسة إلى الإمارات
كما تسعى الرياض إلى استغلال الضعف الروسي الناجم عن تورّط موسكو في حرب بلا أفق، بغية تعديل ميزان القوى بين البلدين الحليفين في ملفّ النفط. تريد الرياض أن تكون صاحبة اليد العليا في العلاقة مع موسكو وأن تعزّز نفوذها في أسواق النفط، وسيطرتها على إدارة الأسعار ما أمكن.
إلى ذلك توفّر الدبلوماسية السعودية في الحرب الأوكرانية وأزمات أخرى فرصة للمملكة لعقد التفاهمات مع واشنطن وترميم العلاقة السعودية الأميركية من دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات في ملفّات حسّاسة لأيّ من البلدين. حضور مسؤولين أميركيّين بارزين لمباحثات جدّة حول أوكرانيا، وقبلها الخطّة السعودية الأميركية المشتركة للسلام في السودان، مثالان على قدرة السعوديّة على إيجاد تقاطعات مهمّة مع واشنطن خارج قائمة القضايا الشائكة والمباشرة بين البلدين.
بن سلمان… وفرصة أوكرانيا
على نحو أشمل، يخدم الانخراط السعودي في ملفّ أوكرانيا بالشكل القائم، والبعيد عن الاصطفاف، طموح وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتعزيز مكانة بلاده كلاعب جيوسياسي مهمّ في الإقليم والعالم.
أمّا الإمارات، التي كان لها السبق في تظهير صورة عدم الاصطفاف، فقد زار رئيسها الشيخ محمد بن زايد روسيا مرّتين خلال 11 شهراً، وأجرى عدداً من الاتصالات بالرئيس الأوكراني، واستقبل سيّدة أوكرانيا الأولى في أبوظبي. أثمرت الوساطات الإماراتيّة تبادلاً للأسرى بين روسيا وأوكرانيا كما أثمرت تحريراً للاعبة كرة سلّة أميركية من سجون موسكو.
في المقابل، انتزعت الإمارات من موسكو موقفاً يدعم مطالبتها بالسيادة على الجزر الثلاث المتنازَع عليها مع إيران، وهي جزر أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى. وما الاستياء الذي عبّرت عنه إيران، على الرغم من عمق تورّطها إلى جانب موسكو في الحرب عبر المسيّرات والصواريخ، إلّا دليل على دقّة التخطيط الاستراتيجي الجيوسياسي الإماراتي. تتقن أبوظبي الاستثمار في ديناميكيات العلاقات الدولية وتظهر براعة لافتة في نسج تحالفات دولية معقّدة لخدمة مصالحها الوطنية.
شكّلت الاتّصالات الإماراتيّة الروسيّة واحدة من نوافذ التواصل النادرة مع موسكو بعد الحرب، ما لم تكن النافذة الوحيدة الفعّالة كونها تحظى بثقة الرئيس الروسي فلايدمير بوتين والأميركيين معاً، على عكس الدور الذي حاول أن يلعبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
كما السعودية، كذلك الإمارات، استثمرت في الحرب الروسية الأوكرانية، لإعادة رسم التموضع الاستراتيجي للدولة في مرحلة تشهد تخبّطاً في العلاقات مع أميركا. تزامنت الاتّصالات الإماراتية الروسية مع تنامي التوجّه الإماراتي لتقليل الاعتماد الحصري على واشنطن وتنويع قاعدة علاقاتها السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.
في هذا السياق، وعلى الرغم من العقوبات الغربيّة المتعلّقة بأوكرانيا على موسكو، ازداد التعاون الاقتصادي بين روسيا والإمارات بشكل كبير. تشمل التجارة البينيّة تدفّقاً كبيراً للنفط الروسي والمعادن النفيسة إلى الإمارات، إضافة إلى تحوُّل أبوظبي ودبي إلى ملاذ ماليّ آمن للأثرياء الروس. وتستضيف الإمارات أكثر من 4,000 شركة روسيّة، في حين تنخرط الدولتان بمحادثات بشأن اتفاقية تجارة حرّة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تتزعّمه روسيا.
تسعى الرياض إلى استغلال الضعف الروسي الناجم عن تورّط موسكو في حرب بلا أفق، بغية تعديل ميزان القوى بين البلدين الحليفين في ملفّ النفط
الإمارات والصين… عسكرياً
أمّا عسكرياً، فتُجري القوّات المسلّحة الإماراتية مع نظيرتها الصينية أوّل مناورات عسكرية جوّية على الإطلاق بين البلدين في شينجيانغ، شمال غرب الصين. يهدف التدريب المشترك، الذي أُطلق عليه اسم Falcon Shield 2023، إلى تعميق التعاون والتفاهم المتبادل بين الجيشين. وتتعاون الإمارات بشكل متزايد مع الصين في مجال الدفاع، بما في ذلك شراء طائرات التدريب L-15 والتطوير المشترك لأنظمة الدفاع.
إلى ذلك تراقب واشنطن بقلق العمل على منشأة بميناء خليفة الإماراتي يُشتبه بأنّها منشأة عسكرية صينية. وكانت الإمارات قد أوقفت البناء الصيني في ميناء خليفة في كانون الثاني 2021 بسبب مخاوف الولايات المتحدة، إلّا أنّ وثائق عسكرية أميركية مسرّبة نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” في نيسان الفائت كشفت عن استئناف أعمال بناء بداخل المنشأة.
انتصارات المغرب الاستراتيجية
على نحو مماثل لنجاح أبوظبي في جذب الموقف الروسي لصالح دعم المطالب السيادية الإماراتية، شهدت القمّة الروسية الإفريقية، قبل أيام انتصاراً دبلوماسياً مهمّاً للرباط، تمثّل في عدم دعوة موسكو جبهة البوليساريو إلى القمّة، على الرغم من الضغوط الجبّارة من طرف الجزائر وجنوب إفريقيا.
اللافت أنّ الدبلوماسية المغربية، التي نجحت في حشد أوسع تأييد دولي لسيادتها على الصحراء المغربية، نجحت في تعديل الموقف الروسي، بخصوص عدم دعوة البوليساريو إلى اجتماعات القمّة الروسية الإفريقية، على الرغم من زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لموسكو قبل القمّة الروسية الإفريقية بأسابيع. وكان الرئيس تبون تعمّد الإشارة من موسكو إلى “التوافق في الرؤى بين البلدين في قضيّة الصحراء” ليأتي غياب البوليساريو ويقول عكس ذلك تماماً.
سبق للدبلوماسية المغربية الهادئة أن وسّعت رقعة الاعتراف بسيادتها على الصحراء، وآخرها الاعتراف الإسرائيلي، الذي تأخّر لأشهر نتيجة حسابات إسرائيلية حاولت تملّق الجزائر ومسك العصا من الوسط، لتعود وترضخ لموجبات الاتفاق الثلاثي الخاصّ بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل في العاشر من كانون الثاني 2020.
إقرأ أيضاً: سوريا مسرحاً لانقسام “الفسطاطين” في أوكرانيا
الحرب الروسيّة الأوكرانيّة إذن، هي أكثر من مجرّد ساحة معركة للدولتين المتورّطتين فيها. فهي تقدّم للدول العربية، شبكة معقّدة من الفرص للتفاوض والاصطفاف والتأكيد على مصالحها على المسرح العالمي، وتفتتح حقبة جديدة من الدبلوماسية الاستراتيجيّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@