أحمد اللدن … عمامةٌ على رأس جبل

مدة القراءة 3 د


 هكذا هي الحال. يرحلون باكرًا ويتركون في ذاكرتنا المتعبة بعضًا من طيفهم وعبيرهم وأثرهم الذي لا يغيب. نستحضرهم كلما ليّل الليل أو استدام. ننهل من سكينتهم. نغرف من حكمتهم. نتوارى خلف هاماتهم. نفعل ما يفعله المرتبكون في لحظات الضياع والصقيع: ليس ثمة في بئرهم ما يروي ظمأ العطاشى، وليس ثمة من يُعاجلهم برشفة ماء.

أحمد اللدن هو واحدٌ من هؤلاء. أسبلةٌ تُوزّع الحب المجاني. شيخٌ تكبر به المجالس والمدارس. عالمٌ من قماشة العارفين المدركين الذين يكتنزون ملح الأرض. هو التقيُّ وقد استوطنت سمات التُّقى في مُحيّاه. وهو النقيُّ الشهيُّ المتواضعُ المتوّجُ بذاتِه ولا نزكّيه على الله. عاش رغم هدوئه كزوبعةٍ دائمةِ الصخب، فصار نجمًا متوّهجًا لا يأفل بريقُهُ، ثم ترجّل كما يترجّل الفارسُ المُجليّ. ذهب هكذا، كما عرفناه كلّ عمره، مجرّدًا إلا من قيمه ونبله ووقاره وعزّة نفسه، وتلك السكينة التي لازمته من مهده إلى لحده.

شكّلت حصافته وعميق معرفته ورجاحة رأيه ذاك الركن الأصلب في مسيرته وفي دوره ورسالته، فيما استحال حُسن طالعه وتجذّر اعتداله ورحابة صدره وليونة قلبه حلقةَ الوصل الأهم بين النخبة والعوام، وهنا تمامًا تجسّدت المفارقة وتبلورت الصورة واكتمل الدور الذي لم يتقنه إلا قلّة قليلة سواه.

عرف هذا المفتي الجليل أنّ العلم يرفع أهله ويرتفع بهم، وعرف أيضًا أنّ الغاية المشتهاة تتجاوز في شكلها وفي مضامينها كلّ الأوصاف وكل الألقاب. كانت الدنيا في متناول يده، لكنه ترفّع كما يترّفع الزاهد المتصوّف. أراد أن يكون على سجيته وسجية أسلافه الصالحين، ذاك العبد الفقير الذي ما برح يُردّد في مجالسه: رأس الحكمة مخافةُ الله.

أمسك أحمد اللدن المجدَ من كل أطرافه، وحضرت بصماته النيّرة في كل فكرة وكل اجتهاد، لكنّه ظل أقرب الناس إلى الناس، وظل على الدوام حدًا فاصلاً بين الحقّ ونقيضه

لم يخفِ في الله لومة لائم. وقف كالجبل صلبًا وعصيًا بوجه كل محاولات الترغيب والترهيب، حتّى في عزّ سطوة النظام الأمني ووحشيته، ثم انتفض حينما أينعت الثورة اليتيمة في دمشق، فأخذ يدعمها ويساندها ببسالة وشجاعة منقطعة النظير، وكأنّها جزءٌ لا يتجزّأ من كرامته ومن صميم دوره ورسالته.

هو كبير الحبر والقلم. العالم الفقيه والمفتي المجتهد والكاتب الألمعي والخطّاط البهيّ والخطيب المفوّه والشاعر اللمّاح. أمسك أحمد اللدن المجدَ من كل أطرافه، وحضرت بصماته النيّرة في كل فكرة وكل اجتهاد، لكنّه ظل أقرب الناس إلى الناس، وظل على الدوام حدًا فاصلاً بين الحقّ ونقيضه، وظلت بلاغته القصوى وقامته الباسقة وحضوره الآسر بوصلة العطاشى والأحرار، حتىّ استحال مرجعًا وقدوة وعمامةً تكبر بصاحبها وتشهد له بين أهله وفي علياء منتهاه.

نتذكّره في هذه الأيام العصيبة، لا لنبكي على الأطلال، بل لنستعيد سيرته العطرة ومسيرته المميزة، ولنقول معه وعبره إن ما يبقى هو الموقف الواضح والبصمة المستدامة والأثر الطيب، أما هذه الدنيا، فهي لا تُبقي على أحدٍ، ولا يدوم على حال لها شانُ.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…