عندما يتحدّث الشيخ أحمد البابا عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تختلط ملامح الحزن بملامح الفخر والفرح. يروي قصصه معه، والفرح يرقص بتفاصيل وجهه، وبعد دقائق، ينظر إلى السقف خافياً دمع العين والكثير الكثير من الخيبة والوجع.
لقد شكّل اغتيال الشيخ حسن خالد، صدمة كبرى لدى الشيخ البابا. فهو شاهد على تساقط كلّ الرفاق من حوله. كيف لا وقد همس المفتي خالد قبل أيام في أذن الشيخ أحمد قائلاً له: “لن أذهب إلى سوريا وأخبرت القادة العرب بذلك في قمة الكويت. وأنا أعلم أنهم سيقتلونني ولكن لن أخاف فكلمة الحق هدفي”.
لقد كان الرئيس رفيق الحريري بالنسبة للشيخ أحمد البابا، خشبة الخلاص للبنان وللمسلمين، بعدما أُبعدت زعاماتهم السياسية، وقُتلت قياداتهم الدينية، وأُخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي، والتي كانت توصف بأنّها “جيش السُنّة”.
إقرأ أيضاً: الشيخ أحمد البابا.. أبكى صبحي الصالح وأنذر حسن خالد (1/2)
عام 1982 كان الدكتور حسني المجذوب سبب اللقاء والتعارف بين الشيخ البابا والرئيس رفيق الحريري، وذلك في مكتب المساعدات التابع لمؤسسة الرئيس الحريري في سنتر الطبش بمنطقة عائشة بكار مقابل منزل الرئيس سليم الحص.
عن اللقاء الأول يروي الشيخ البابا: “بعد التعارف قال لي الرئيس الحريري: ماذا تحتاجون في جامع الفاروق؟ قلت له: لا نحتاج شيئاً، المصلون يقومون بالواجب والحمد لله. فابتسم ابتسامة عريضة قائلاً: “غريب أنت يا شيخ أحمد..”.
حادثة حوّلت الشيخ إلى صديق للرئيس، فكثرت اللقاءات والأحاديث الودّية، وفي كلّ لقاء كان الرئيس يسأل الشيخ : “ماذا تحتاجون في جامع الفاروق”. وكان جواب الشيخ لا يتغيّر: “الحمد لله كلّ شيء متوفّر”. الرئيس لا يكلّ، والشيخ لا يملّ. حتى كان العام 2004 حين قرع جرس الهاتف في منزل الشيخ: “الرئيس ينتظرك ويريد لقاءك”. وما إن دخل الشيخ على الرئيس حتى بادره بالقول: “ماذا يحصل يا شيخ أحمد؟ الناس تموت، عندك في المسجد”. فأجابه الشيخ: “المسجد بُني على هذا الشكل بناء لتوجيه المفتي الشهيد حسن خالد للاستفادة من المرافق التجارية. والوصول إلى باحة الصلاة يحتاج الصعود على درج طويل وقد تدحرج أحد المصلين من آل النقاش وتوفاه الله. هذا قدره”. فقال الرئيس غاضباً: “هذا استهتار بحياة الناس، فكيف لرجل عجوز أن يصعد درجاً كهذا خمس مرات في النهار. لن أقبل أن يقال إن مسلماً مات في أحد مساجد بيروت في زمن رفيق الحريري”.
الشيخ أحمد البابا، صديق الشهداء وقاهر الرصاص. يؤمن أنّ النجاح في القيادة يكون بحسن اختيار البطانة الصالحة. فهذا ما ميّز المفتي الشهيد حسن خالد والرئيس الشهيد رفيق الحريري
أصرّ الرئيس الحريري على إيجاد وسيلة تجنّب المصلين الصعود إلى الدرج، فكان القرار بوضع سلم كهربائي، حرص الرئيس الحريري أن يكون المتعهّد والمشرف على تركيب السلم من أبناء بيروت قائلاً: “هم الأحق بالعمل في مساجدها”..!
ويروي الشيخ أحمد قصة عن الرئيس الحريري قبل اغتياله بأيام فيقول: “ليلة باردة وممطرة. تمام الساعة الواحدة فجراً جرس هاتفي يرنّ. المتصل كان الرئيس رفيق الحريري، قال لي: “أين أنت؟” أجبته: “وأين أكون في هذا الوقت؟ أنا في فراشي استعد للنوم”. فقال لي: “أنا على باب المسجد أنتظرك الآن”. ارتديت ثيابي وتوجّهت سيراً على الأقدام إلى المسجد، فرأيت الرئيس رحمة الله عليه، يقف وظهره على الباب فاتحاً يديه اتقاء من المطر عبر الحافة الإسمنتية التي تعلو الباب.
دخلنا إلى المسجد وعاين الدرج الكهربائي، فقلت له: سأضع لوحة رخامية كُتب عليها شُيّد هذا الدرج عن روح المرحوم الحاج بهاء الدين الحريري. فقال لي: “لا تفعل شيئاً. غداً أرسل إليك لوحة لتعلّقها”. في اليوم الثاني وصلت لوحة رخامية منه كتب عليها الآية:{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}. ولا زالت هذه الرخامة موجودة حتى اليوم.
ويختم الشيخ البابا: “بعد أيام اغتيل الرئيس رفيق الحريري قبل أن يشهد تدشين الدرج الكهربائي، وكأنه أتى ليعاينه قبل استشهاده..”.
الشيخ أحمد البابا، صديق الشهداء وقاهر الرصاص. يؤمن أنّ النجاح في القيادة يكون بحسن اختيار البطانة الصالحة. فهذا ما ميّز المفتي الشهيد حسن خالد والرئيس الشهيد رفيق الحريري. كانوا يحسنون اختيار الرجال. ويروي هنا الشيخ البابا: “مرة رأيته غاضباً بسبب التهمة التي وجّهتها المخابرات السورية للوزير نهاد المشنوق، وكان يصفه بالجهبذ في السياسة والإعلام. فقلت له: “إني لا أرى فيه هذا الجهبذ، أراه يضع السيجار وينظر دائماً إلى السماء وشايف حاله”. فردّ عليّ بالقول: “أنت لا تعرفه على حقيقته، لقد اخترته من بين الآلاف لأنه رجل وأنا انتقي الرجال”. فسألته: “ولماذا اتهموه بالعمالة”، فقال لي: “هذه التهمة موجّهة لي شخصياً. هي طعنة لي. لكن إن شاء الله سأنجيه منها..”.
مغادرة مجلس الشيخ أحمد البابا، كمن يغادر كتاباً للتاريخ دون أن يُنهيه، يزور أحداثاً لا يعرف خفاياها ويخرج منها متمنياً لو أنه ما عرفها. عبارة بيروتية ترافقك في المصعد وأنت تغادر “الشيخ زلمي تقيل”.
رسالة من الشيخ أحمد إلى الرئيس سعد
على هامش اللقاء أراد الشيخ أحمد البابا أن يوجه رسالة للرئيس سعد الحريري فقال: “انتظرنا من الشيخ سعد أن يحمل المسؤولية الكبيرة بعد والده وتوقعنا وأحياناً صدقت توقعاتنا وأحياناً خابت إلاّ أنّ خيباتنا كبيرة جداً ولكن لم نفقد الأمل فرجاؤنا بالله سبحانه وتعالى أن يهيئ له البطانة الصالحة . هو يشكو من عدم قدرته على اختيار الرجال والبطانة وهذا هو سبب النكسات التي تصيبه فوالده كان يحسن اختيار الرجال فعليه أن يعرف كيف يختار”.