بعد شهرين وأسبوع تقريباً على تفجير ميناء بيروت، وبعد سنة على انكشاف الانهيار المصرفي اللبناني، إذ صارت ودائع اللبنانيين والعرب في مكان مجهول، هناك مفارقة تستوجب التوقف عندها. لبنان بلا حكومة، لكن لبنان باشر مفاوضات مباشرة مع إسرائيل من أجل ترسيم الحدود بينهما.
مثل هذه المفارقة تفرض طرح سؤال محوره: من هي السلطة الفعلية في لبنان؟ السلطة التي عطّلت تشكيل حكومة، لكنّها ارتأت في المقابل تغطية مفاوضات مع إسرائيل تجري برعاية أميركية وإشراف من الأمم المتحدة؟
إقرأ أيضاً: “الحزب” يجرؤ حيث لا يجرؤ الآخرون
مؤسف أن يذهب لبنان إلى مفاوضات مع إسرائيل في هذا التوقيت بالذات في غياب حكومة من جهة وفراغ سياسي على أعلى المستويات من جهة أخرى. هذا الفراغ ليس ناجماً عن تراجع مسيحي على كلّ الجبهات وفي كلّ الميادين فحسب، بل عن التغطية المسيحية لسلاح غير شرعي أيضاً. بكلام أوضح، هذا السلاح هو سلاح “حزب الله” الذي يخدم مصلحة إيران. آخر ما يفكّر فيه من يحمل هذا السلاح، هو مصلحة لبنان.
لعلّ التحوّل الخطير الذي يشهده لبنان حالياً يتمثّل في أنّه لم يعد مطلوباً الاكتفاء بإلغاء المسيحيين. هناك تعمّد لإلغاء أهل السنّة. هذا هو التفسير شبه الوحيد لبقاء البلد من دون حكومة في هذه المرحلة المصيرية التي يمكن اختزالها بتفضيل “الثنائي الشيعي” الذهاب إلى مفاوضات ذات طابع سياسي وتقني في آن مع إسرائيل
لا حاجة إلى التذكير بأنّ “حزب الله” ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني بعناصر لبنانية. الأكيد، أيضاً، أن لا حاجة إلى التذكير بوثيقة مار مخايل التي وقّعها في السادس من شباط 2006 الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله مع رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون. كانت الحاجة إلى عشر سنوات كاملة لاختبار “التيّار العوني” والتأكّد من أنّه لن يحيد عن الخطّ الذي رسمه له “حزب الله”. بعد عشر سنوات كوفئ ميشال عون برئاسة الجمهورية. لم يدرك كلّ من وقف إلى جانب انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية معنى تحوّل “حزب الله”، أي إيران، إلى الطرف الذي يقرّر من هو رئيس الجمهورية اللبنانية المسيحي. كان على المسيحيين جميعاً رفض ذلك باكراً من دون أيّ تردّد، خصوصاً أن ليس بينهم من يريد الخروج النهائي للطرف المسيحي من المعادلة السياسية اللبنانية.
لعلّ التحوّل الخطير الذي يشهده لبنان حالياً يتمثّل في أنّه لم يعد مطلوباً الاكتفاء بإلغاء المسيحيين. هناك تعمّد لإلغاء أهل السنّة. هذا هو التفسير شبه الوحيد لبقاء البلد من دون حكومة في هذه المرحلة المصيرية التي يمكن اختزالها بتفضيل “الثنائي الشيعي” الذهاب إلى مفاوضات ذات طابع سياسي وتقني في آن مع إسرائيل، بدل التركيز على تشكيل حكومة تشرف على هذه المفاوضات.
المشكلة إنّه كان مفترضاً في المفاوضات مع إسرائيل أن تكون قراراً وطنياً لبنانياً، وليست قراراً يتخذّه قسم من اللبنانيين بغية تحقيق هدف مرتبط بالمصالح الإيرانية ليس إلّا. ليس معروفاً ما الذي دفع الرئيس نبيه برّي، الذي هو أيضاً رئيس حركة “أمل”، إلى الإعلان بنفسه عن اتفاق على إطار للمفاوضات مع إسرائيل. هل ذلك عائد إلى العقوبات الأميركية التي طالت الوزيرين السابقين علي حسن خليل (شيعي) ويوسف فنيانوس (ماروني قريب من “حزب الله)؟ أم أنّ هناك رغبة لدى إيران في تقديم أوراق اعتمادها باكراً إلى الإدارة الأميركية الجديدة التي تراهن على أنها ستكون برئاسة جو بايدن… أم هناك أخيراً نيّة إيرانية واضحة في نسف المبادرة الفرنسية من أساسها مع ما تضمّنته من إصلاحات؟
لماذا استفاق “حزب الله” على ترسيم الحدود في هذه الأيّام بالذات؟ ولماذا لا يترافق قراره مع ترميم ما يمكن ترميمه داخلياً، خصوصاً في مجال تشكيل حكومة معقولة تضمّ اختصاصيين
تبدو المفاوضات من أجل ترسيم الحدود مع إسرائيل أمراً طبيعياً. كان يفترض أن تبدأ قبل وقت طويل، مباشرة بعد حرب 1967، بدل إدخال لبنان نفسه في متاهات العمل الفدائي الفلسطيني والتكفير عن ذنب لم يرتكبه، هو ذنب عدم المشاركة في تلك الحرب.
كان قرار الامتناع عن المشاركة في حرب 1967 قراراً حكيماً. كان في الإمكان تفادي تحوّل جنوب لبنان إلى صندوق بريد طوال نصف قرن، خصوصاً منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في خريف العام 1969. هذا لا يغني عن طرح أسئلة من نوع: لماذا استفاق “حزب الله” على ترسيم الحدود في هذه الأيّام بالذات؟ ولماذا لا يترافق قراره مع ترميم ما يمكن ترميمه داخلياً، خصوصاً في مجال تشكيل حكومة معقولة تضمّ اختصاصيين في وقت لا وجود سوى لفرصة واحدة في المدينة هي المبادرة الفرنسية التي تهيّء، عملياً، لمفاوضات جدّية وحقيقية مع صندوق النقد الدولي.
حقّقت إيران ما تريد تحقيقه، خصوصاً بعدما امتلكت، بشهادة قاسم سليماني، أكثرية في مجلس النوّاب اللبناني. أكّدت أنّها تمتلك القرار اللبناني وتتحكّم به. أهمّ ما أكدته أنّ المسيحيين في لبنان، صاروا غائبين، ومن بقي منهم صار في جيبها… وأنّها قادرة على العمل من أجل تهميش السنّة. لم تنجح بذلك إلى الآن. لذلك، يذهب لبنان إلى التفاوض مع إسرائيل في غياب أيّ تكافؤ من أيّ نوع في موازين القوى. هناك بلد انهار اقتصادياً مع انهيار مصارفه. بلد منقسم على نفسه ومن دون حكومة. بلد فقد ميناء بيروت وبيروت نفسها. بلد يعاني من فراغ سياسي على أعلى مستوى. مثل هذا البلد، حيث يرفض كثيرون أخذ علم بحجم الكارثة التي حلّت به، يريد التفاوض مع إسرائيل. ما الأجندة التي ستفرض نفسها؟ هل أجندة إيران… أم لا يزال هناك أمل بأجندة لبنانية ليس معروفاً من يستطيع فرضها.