لا ينقص فلسطين وقضيّتها مقاتلون فدائيون أو ثوّار أبطال ولا عزيمة وصمود شعب. ففي كلّ مخيّم وكلّ قطاع أو مدينة وفي كلّ منزل وزقاق أو دار يوجد بطل وعائلة صامدة وثلّة من الثوّار.
لا ينقص فلسطين وقضيّتها نازحون أو أيتام وأرامل وشهداء، فعلى مذبح القضية يُقدّم الكثير من هؤلاء عند صبيحة كلّ نهار.
لا ينقص فلسطين وقضيّتها تعاطف شعبي ودولي، فكلّ شعوب العالم تتظاهر اليوم ملوّحة براية فلسطين صارخة مطالبة بالحرّية لهذا الشعب ولهذه الأرض من رجس الاحتلال ومجازره وانتهاكاته لكلّ القوانين السماوية والأرضية. كلّ الشعوب ترفع راية فلسطين وتتعاطف معها كما لم تتعاطف من قبل.
لا ينقص القضية الفلسطينية خذلان الشقيق وتلكّؤ الأخِ وصمت الصديق، فهذه سُنّة الثورات عند كلّ مفترق وكلّ استحقاق.
ما ينقص فلسطين وقضيّتها هو ذاك “الختيار”، الذي كان رمزاً بكوفيّته وبنظّارته السوداء وبعصاه التي يضعها تحت إبطه وببدلته الكاكيّة ولقبه المحبّب عند الجماهير عندما يشيرون إليه بأصابعهم. إنّه “أبو عمّار”.
ما ينقص فلسطين وقضيّتها اليوم لا شيء غير “أبو عمّار”. فهو القائد القادر على مصالحة الجميع ومخاصمة الجميع، وتقبيل الجميع والصراخ بوجه الجميع، وكلّ ذلك لمصلحة القضية. فلا صوت يعلو فوق صوت القضية عند ياسر عرفات مهما كان الحضور ومهما كان الخيار، أو كما يقول ابن شقيقته القيادي في حركة فتح ناصر القدوة في لقاء صحفي “لو أن عرفات كان موجوداً الآن لكان حمل “الكلاشينكوف وذهب إلى غزّة وقلب الدنيا وتسبب بثورة في طريقة العمل الفلسطيني”
ما ينقص فلسطين وقضيّتها اليوم لا شيء غير “أبو عمّار”. فهو القائد القادر على مصالحة الجميع ومخاصمة الجميع، وتقبيل الجميع والصراخ بوجه الجميع، وكلّ ذلك لمصلحة القضية
ما سرّ “أبو عمّار”؟!
.. 19 عاماً على رحيله. ما سرّ هذا الإنسان الحاضر دوماً وأبداً على الرغم من هذا الفراق؟ ما سرّ كوفيّته التي عادت على كلّ رقبة حرّ وكأنّها تاج يُتوّج به الأحرار؟ هل له سرّ عند الله ليكون كلّ ذلك وليختزل بشخصه تفاصيل كلّ المشوار؟
ما سرّه وسرّ كوفيّته التي لا يخبو لونها الأحمر أو الأسود، وإن أراد أحد أن يبتاعها من متجر قال لصاحب المتجر أريد كوفيّة “أبو عمّار”.
.. 19 عاماً على اغتيال “الختيار” وهو لم يبارح القضية. موجود في نابلس والجليل وجنين ورام الله. هو هناك في مستشفى الشفاء يرفض المغادرة كما لم يغادر مقرّ السلطة عندما ضُرِب حولها الحصار وظهر بوجهه جندي إسرائيلي فأخرج مسدّسه صارخاً به “إرحل وإلّا أطلقت النار”. موجود هو في كلّ حصار يُضرب حول القضية في بيروت وطرابلس وصبرا وشاتيلا في لبنان ومخيّم اليرموك، حيث حمل أبناؤه سيّارته فرحاً بوجوده بينهم على الرغم من قمع المستبدّ الحاكم بأمره ذاك النهار.
.. 19 عاماً على اغتيال “الختيار” وما زالت صورته شابّة ترفع الإصبعين شارة للنصر، مؤكّدة أنّ لحظة التحرير قادمة. ألم تسمعوه يقول: “سنقيم دولة فلسطين وعاصمتها القدس شاء من شاء وأبى من أبى ويلي مش عاجبه يشرب من بحر غزّة”.
إنّه الختيار المدرك للتاريخ الممسك بالحاضر والرؤيويّ للمستقبل حين توعّدهم ببحر غزّة إذ أدرك أنّ على ذاك الشاطىء سيكون القرار.
إقرأ أيضاً: “الختيار” عاد شاباً في غزّة بعد 50 عاماً
في الضريح برام الله يقبع جثمانه، فيما روحه تطوف فوق فلسطين في كلّ دار. كوفيّته باتت النشيد عند الفرح والنصر والهزيمة لكن لا انكسار. كم نحتاج إليه اليوم! كم تحتاج إليه القضية! كم كان فقدانه واضحاً في قمّة الرياض! تسأل عنه المؤتمرات الصحافية وهو يصرخ بوجه صحافي يتشكّك في القضية بسؤال عابر أو عندما يقول للأعداء “أنا أبو عمّار”.
*غداً: هكذا اغتيل ياسر عرفات
لمتابعة الكاتب على تويتر: ziaditani23@