خلدون جابر
كان اتصال الضابط من مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، صباحاً، كافياً لرفع منسوب الـ”أدرينالين” في جسمي، ونفضت عني غبار الإحباط، فتوجهت مسرعاً إلى ساحة الثورة الشاهدة على كل تقلباتي النفسية والمزاجية.
قال الضابط: إنني مدعوّ إلى التحقيق في مكتبهم يوم الإثنين المقبل، رافضاً الكشف عن سبب الدعوى أو الجهة المدّعية، لكنه حتماً متعلق ببوست “فايسبوكي” سبق وكتبته، كالعادة، ضد الدولة، وما يمثلها.
وصراحة، لم أتفاجأ بالاستدعاء، فإنها ليست المرة الأولى التي يراقبون أفكاري المكتوبة بصوت مرتفع، بل ابتسمت وقلت لنفسي:” العمى شو إلن خلق!”.
إقرأ أيضاً: “عكس السير”.. الوجهة التي فقدناها
جلست ورحت أبحث في منشوراتي على “فايسبوك”، علّني أجد ما يهدّد السلم الأهلي، أو يتسبب بحرب عالمية ثالثة، أو “بوست” يبثّ على التحريض والكراهية والعنف. فكل كلماتي تصف الحالة اليومية للوطن والمواطن بكل أبعادها، الدرامية والفكاهية والعاطفية، وكلها تُختصر بأربعة أحرف: ث.. و.. ر..ة.
اليوم، يريدون منّا أن نخاف ونرتعب ونقلق، نحن الذين أسقطنا الخوف بعبارات وشتائم زينت جدران وسط البلد. إنهم يطلبون منّا، مواربة، أن نترك ساحاتنا وخيمنا، نحن الذين حوّلنا بيروت إلى خيمة جامعة.
تعود بي ذاكرتي إلى منتصف ليل 17 تشرين الأول، تلك الليلة المجيدة التي أعادتني إلى لبنانيتي الحقيقية، عندما أدركت أنّ الثورة تليق بنا، نحن الذين كسروا أحلامنا في شوارع بيروت وسرقوا آمالنا في بناء وطن، وعشنا من الظلم والفساد والخيبات ما يكفي لتصدير الثورات إلى العالم بأسره.
في تلك الليلة، كنتُ فرحاً بمشاهد الشغب والغضب وقطع الطرقات، هناك ولدنا مجددًا عندما تحررنا من التبعية، وشتمنا كل فاسد “بدناش نوصلّه رسالة”. ما قبل ١٧ تشرين ليس كما بعده، فالزمن الراهن أصبح يعتمد توقيت الثورة. أكثر من 130 يوماً والسلطة المرعوبة تحاول تفريقنا بغازاتها المسيلة للدموع، وإعلامها المثير للشفقة، وخطابات التخوين المملّة وجماعات “فيه شي أكبر مني ومنك”.
الأحزاب كلها تهوّل علينا بشبح حرب أهلية هم نجومها وقادتها، وتفرض علينا دولة بوليسية تدوس على الحريات والحقوق، ضاربة بعرض الحائط كل المواثيق الدولية التي تقرّ بحرّية الرأي والتعبير، دولة تستخدم أجهزتها الأمنية لاستدعاء ناشطين ومحاكمتهم بتهمة: الثورة.
بعد جدار العار وبلوكات الإسمنت وعزل الساحات، تأتي أخيراً هيستيريا الأجهزة كإنجاز آخر يفتتح به حسان دياب كتاب إنجازاته الثاني
حكومة اللا ثقة ارتدت القمع والتخويف قناعًا لها، وقرّرت أن تهدينا حملة ممنهجة من الاعتقالات والاستدعاءات، وسخّرت جهودها لفبركة ملفات معدّة سلفاً من قبل النظام، بدل المباشرة بمعالجة الانهيارالاقتصادي ومحاربة احتكار المصارف والحد من غلاء الأسعار.
بعد جدار العار وبلوكات الإسمنت وعزل الساحات، تأتي أخيراً هيستيريا الأجهزة كإنجاز آخر يفتتح به حسان دياب كتاب إنجازاته الثاني. هذه حكومة عهد خنق شعبه واستكثر عليه التعبير الافتراضي، معتبراً الـ”بوست” جريمة.
الإثنين سأمثل لأقول: “مباركة ثورتنا لأنها فضحت كل من وصل إلى الحكم وخان ثقة الشعب، وكل من تاجر بوجعه وشارك في صفقات الفساد، وتآمر على أبناء الوطن وساهم بقتلنا وتهجيرنا، وتجويعنا وتخويننا.. لكم عهدكم القوي بالقمع، لكم فشلكم وعجزكم، ولنا ربيعنا الذي أزهر في تشرين…لنا صيحات الهيلا هيلا هو”.