هبة الجزار
17 تشرين الأول كان يوم عمل عادي. استيقظت مع ولديّ لنتوجه إلى المدرسة، حيث أعلّم وحيث يتعلّم ولداي أيضاً. وصلنا إلى المدرسة. كان يوماً تعليمياً مملاً، بسبب تكرار أخبار المشاكل اليومية، ومراقبة التلاميذ الروتينية.
الحديث عن ضريبة الـ”واتساب” كان الاستثناء هذه المرة. لم يجذبني النقاش في البداية، لأنني اعتبرت أن الأمر إشاعة لا أكثر: “ولو؟! إنو معقول يعملوها هلأ بهيك وضع؟ مستحيل توصل معن لهون”، كنت أقول لزميلاتي في المدرسة.
مع ذلك، لم أحرّك ساكناً. “إيه، وخير؟ يزيدوها. كلها 6 دولار بالشهر، مش قصة كبيرة”، هكذا فكرت، وقلت في نفسي: أنا أم وامرأة عاملة، لن أضيّع وقتي وطاقتي في التفكير بالموضوع.
إقرأ أيضاً: من ثمار الثورة: العطاء السرّي
تكمن همومي في تأمين لقمة العيش والثياب الدافئة للشتاء، والتدريس. بعد انتهاء اليوم الدراسي، انصرفت إلى مهماتي اليومية، فدرّستُ الولدين وحضّرت العشاء. بعد ذلك، توجهتُ إلى منزل أمي للاهتمام بها. كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف مساء.
وما إن وصلت إلى قصقص حتى تلقيت اتصالاً من أبي للاطمئنان عليّ، قائلاً إنّ “الطرقات بلشت تتسكر. الوضع ما منيح. وين صرتي؟”. وصلت. تحدثت مع أمي ثم جلست أمام التلفزيون لمشاهدة الأحداث في بيروت، وبدأت أتواصل مع الأصدقاء على الـ”واتساب”.
أردت المشاركة في التكسير وإغلاق الطرق وحرق الدواليب، لأعبّرعن الغضب الذي راكمته منذ سنين ضد الدولة وممثليها. لكنّ أحداً من أصدقائي لم يكن هناك، في الميدان. خفت. ترددت. ثم غادرت منزل أهلي.
سلكت طريق كورنيش المزرعة: إطارات مشتعلة على الطريق، وحاويات النفايات مبعثرة على الأرض وقد أضرمت فيها النيران. كنت أشعر برهبة غريبة. رغم أنني كنت خائفة، غير أنني شعرتُ بفرحة انتفاضة الناس ضد الظلم.
أنا، المعلّمة، شعرتُ بفرحة الفوضى أيضاً: الكل يسير عكس السير.
إنّها الوجهة التي فقدناها وأردناها، أن نكون ضد “سير” الدولة الموجّه.
وسط الفوضى، كان الشبان يقولون، وهم يشيرون إليّ: “مرا لحالها، افتحلها طريق”. كنت خائفة وأنا أقود السيارة. تغلّبت على خوفي وأنا أقول لنفسي: “يا بتكملي للآخر، يا هلأ بترجعي على بيت أهلك”. ثم سألت: “من مين بدك تخافي؟ من شعب متلي متلو محروق دينو وعم يعبّر عن وجعه؟”. أكملت القيادة ووصلت إلى الحمرا بسلام .
لم أشعر بالحاجة لوجود أصدقاء معي، إذ اكتشفت أنّ الشارع بكل أشخاصه يشاركني همومي ومطالبي
في اليوم التالي، استيقظت باكراً. كان يوم عطلة طبعاً. جلست مع ولديّ وأخبرتهما عما حصل ليلاً، وأعلمتهما أن المدرسة لن تفتح أبوابها. كنت مسرورة وأنا أوضح لهما: “اليوم مش عطلة عادية. اليوم نهار مجيد لكل اللبنانيين اللي انتفضوا للمطالبة بحقوقن”.
وبعد المحاضرة، ارتديت ثيابي وتوجهت إلى الشارع من دون أي دعوة أو تخطيط، أو حتى تنسيق مع الأصدقاء. أردت أن أصرخ بأعلى صوت: “الشعب يريد إسقاط النظام”. لكن كيف وأين؟ لم يكن مهماً، بقدر الغضب والصرخة. لم أكن خائفة مثل الليلة التي سبقتها.
نزلت إلى الشارع، لأصرخ للناس: “يلّي واقف ع البلكون، إنزل نحنا شعبك هون”. لم أشعر بالحاجة لوجود أصدقاء معي، إذ اكتشفت أنّ الشارع بكل أشخاصه يشاركني همومي ومطالبي. تخيّلت ولديّ إلى جانبي. دفعت حاوية النفايات الأولى إلى الأمام. ثم دفعت الحاوية الثانية. هكذا قطعت الطريق في منطقة القنطاري يوم 18 تشرين الأول.