من يراقب خُطب الجمعة التحريضيّة… التي صنعت الموت طويلاً؟

مدة القراءة 8 د


غداة عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023)، عمّت مشاعر الفرح والسعادة والنشوة معشر العرب والمسلمين، ولا سيما السُّنّة في لبنان. فطفقوا يتبادلون التبريكات ويوزّعون الحلويات، وصدحت المساجد بالتكبيرات احتفاء بالنصر المبين.

استذكر السُّنّة لحظات العزّ التي خلّدها التاريخ، حتى إنّ بعض المشايخ فكّروا في إقامة “صلاة الفتح”، وهي صلاة بثماني ركعات كان يصلّيها “إمام المسلمين” حين يتمّ فتح بلد أو مدينة، مثلما فعل الخليفة عمر بن الخطاب غداة فتح مدينة القدس، وعاد الفلسطينيون وصلّوها في ذلك اليوم بعد أكثر من 3 قرون على إقامتها للمرّة الأخيرة في النمسا.

بيد أنّ حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على غزّة وأهلها، أعادت المسلمين السنّة، وخاصة رجال الدين، إلى خطابهم التقليدي “الكربلائيّ” الطابع، والمستمرّ منذ النكبة الكبرى عام 1948. على وقع هذا الخطاب نشأت الأجيال السنّية، وترسّخت في عقول الكثير منهم فكرة المؤامرة، والأحاديث عن تخاذل زعماء بعض العرب ونخبهم السياسية.

حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على غزّة وأهلها، أعادت المسلمين السنّة، وخاصة رجال الدين، إلى خطابهم التقليدي “الكربلائيّ” الطابع، والمستمرّ منذ النكبة الكبرى عام 1948

دور المسجد في هذه الحكاية

يعتبر المفكّر الجزائري مالك بن نبي، أحد روّاد النهضة الإسلامية، أنّ “تغيير واقع المسلمين يبدأ بغرس بذور الإصلاح في نفوس الأجيال من خلال التركيز على الهيكلين الأساسيَّين: المسجد والمدرسة”. ذلك أنّ لهما دوراً كبيراً في “نشر الوعي، وغرس الفضيلة والقيم والنسيج الأخلاقي بين أفراد المجتمع. وأيّ مساس بهما من خلال توظيفهما في خدمة برامج وأجندات سياسية هو ضرب في صميم مكانتهما المرموقة”.

النقطة الأخيرة التي وقف عليها المفكّر الجزائري تعدّ أمّ المشاكل عند السنّة. فالخطاب الديني، سواء في خطب الجمعة أو الوعظ والدروس الدينية، يصبّ إمّا في خدمة أيديولوجيّات وأهداف سياسية معيّنة، وإمّا في خانة التحريض واستثارة العواطف. وهذه النزعة الدوغمائية السائدة في الخطاب الديني منذ عام 1948، وربّما قبل ذلك، أسهمت في إنتاج ما يصفه بعض علماء الاجتماع بـ”الدوغمائية الساذجة” لدى العوامّ وأهل الشارع، أي السذاجة التي يعمّمها هذا النوع من الخطاب لدى المتلقّي في المسجد.

على وتر هذه الدوغمائية بالذات، يعزف أهل الأيديولوجيّات لإعادة تشكيل وعي المخاطَبين من خلال استخدام تأويلات معيّنة لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتوظيفها للتجريح والطعن بالحكّام العرب والنخب السياسية، بهدف إظهار أنّهم يطعنون الأمّة، ويساعدون الغرب في “مؤامرته الكبرى على الإسلام في الحدّ الأقصى، أو السخرية منها ومن أدائها في الحدّ الأدنى.

لكن ما هي الفائدة التي يقدّمها هذا الخطاب؟ ولمصلحة من خلق مشاعر الكراهية تجاه الدول العربية والإسلامية، وبالذات الدول الخليجية، وهي التي يعمل فيها أبناء المسلمين، وبينهم أبناء بعض الخطباء أنفسهم؟

قبل أعوام قليلة، أسهم هذا الخطاب في تشجيع العشرات من الشبّان على الذهاب إلى سوريا لـ”الجهاد” ضدّ النظام الحاكم هناك. فوقع بعضهم في براثن التنظيمات الإرهابية، ومن قُيّضت لهم النجاة سيقوا إلى السجون اللبنانية، واستخدمتهم القوى النافذة في السلطة كـ”ورقة” على طاولة المفاوضات مع الدول الغربية المؤثّرة على قاعدة “السلطة مقابل مكافحة الإرهاب”. وجلّ ما أتيح للمحرّضين والمشجّعين فعله هو ندب ورثاء “المظلومية السنّية” المستمرّة.

اليوم يعاد تكرار المأساة نفسها، فهل من الممكن أن تخلص التجربة المستنسخة إلى نتيجة أخرى؟

في لبنان هذه الأيام، يبدو أنّ الخطب الدينية يوم الجمعة تغرق في “جهل” بعض رجال الدين، وعدم قدرتهم على القيام بأعباء توجيه الناس وتثقيفهم، فيقعون في المغالطات، وليس أكثرها إثارة للأسف مقتل المراهق الصيداوي بلا أيّ نتيجة أو تأثير

عمليّات الأدلجة: عمليّات عسكريّة من لبنان

قبل أسابيع قليلة، خرجت في طرابلس مسيرة شارك فيها عدد من الفتيان راحوا يهتفون نصرةً لقادة حركة “حماس” يحيى السنوار ومحمد الضيف وأبي عبيدة. هذه المسيرة المحدودة ما هي إلّا من مآثر عملية “الأدلجة” التي شرعت فيها “الجماعة الإسلامية”، عبر الخطب والوعظ في المساجد والمدارس، وعلى “منابر” مواقع التواصل الاجتماعي، وتصوير قادة حماس بأنّهم “رجال من عهد الصحابة”. وهذه الفكرة اعتادت كلّ تنظيمات الإسلام السياسي استخدامها للتعظيم من قدر أشخاص معيّنين، وفي الوقت نفسه الحطّ من قدر الآخرين.

أمّا أحدث تلك المآثر فكانت المجموعة التي ضبطتها الأجهزة الأمنيّة اللبنانية في اللحظات الأخيرة قبل الانطلاق من شاطئ مدينة صيدا لتنفيذ عملية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. تشير المعلومات إلى أنّ أحد الذين أوقفهم الأمن (ج. ق.)، ولعب الدور الأبرز في توفير القارب لزوم الانتقال، هو عضو منظّم في “الجماعة الإسلامية”.

بيد أنّ الأخيرة ليست وحدها، فهناك الحزب عبر “سرايا المقاومة”، وحركة “حماس” في لبنان، اللتان فتحت كلّ منهما باب الجهاد. فـ”كتائب العزّ” التي ظهرت أخيراً ما هي إلا من ثمار تنظيم “طلائع طوفان الأقصى”، وهي التي دعت “حماس” أبناء المخيّمات الفلسطينية للانضمام إليها بعد 7 أكتوبر. وهذا الخطاب إيّاه هو الذي دفع بالفتى عبد الكريم البرناوي (مواليد عام 2006)، إلى أرض الجهاد على الجبهة الجنوبية، ووُجِدَت جثّته في بداية كانون الثاني الجاري في محيط الحمامص قبالة مستعمرة المطلّة، وهو مبتور القدم اليمنى وبجانبه سلاح حربي.

 

جرح الحرب يحمل قيمة “سياسيّة” متغيّرة

ثمّة كثرٌ غيره قد يسيرون على الدرب نفسه تحت وطأة تأثير خطاب ديني يُعلي من أهمية الشهادة على حساب الحياة، وكأنّ المطلوب من المسلمين أن يستشهدوا فقط، دون أن يكون لكلّ ذلك أدنى أثر في التخفيف من معاناة أهل غزة، بل هي تعبئة أيديولوجيّة من أجل التوظيف السياسي، إن في المخيمات الفلسطينية، أو في الداخل اللبناني، أو على مستوى المنطقة.

ذات مرّة خلال إحدى الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، تجادل رجل دين لديه موقع بارز في أحد التيّارات السلفية العريقة*، مع مجموعة من الشبّان المؤدلجين المتأثّرين بالخطاب الديني حول أفكار الشهادة والقضية، فسألهم: “إذا هبّ السواد الأعظم لشعب ما من أجل نيل شرف الشهادة، فمن ذا الذي يتحدّث باسمه ويفاوض عنه لتحقيق أهداف القضية؟”.

هنا بالضبط تبرز القيمة السياسية لضحايا الحروب من شهداء وجرحى. في كتاب “سردية الجرح الفلسطيني”، يبيّن طبيب الحروب والنزاعات الفلسطيني غسان أبو ستّة أنّ جرح الحرب يحمل قيمة سياسية تتغيّر باستمرار حسب تغيّر المشاريع السياسية، فتزداد أهميّته إبّان المفاوضات السياسية، ثمّ تضمر بعد انتهائها.

خطاب “الجهل” والتحريض المجّانيّ

يتّسم الخطاب الديني التقليدي السائد في خُطب الجمعة بالذات بطابع غضوب يجعلها حافلة باللوم والتقريع. بيد أنّ شعبوية بعض الخطباء تدفعهم أحياناً للذهاب بعيداً، والخروج عن أدبيّات الخطابة على منبر يتمتّع بحرمة معنوية لأنّه منبر رسول الله. وفي الآتي عيّنة من خطباء سمعهم كاتب هذه السطور بأذنيه:

– أحد الخطباء في مدينة طرابلس اختصر اسم عائلة الرئيس الأميركي جو بايدن، وحذف منه حرفين فصار كلمة قبيحة أكثَر من تردادها بفخر واعتزاز.

– وخطيب ثانٍ هجا العرب كلّهم هجاء مريراً، وأكثَر من استخدام السجع اللغوي: “العرب جرب”، الذي يكثر ترداده بين العوامّ المتأثّرين بهؤلاء المشايخ، دون الالتفات إلى أنّ أغلب العلماء نبّهوا كثيراً إلى ضرورة عدم استخدامه لأنّه يطال النبيّ محمّد وصحابته، باعتبارهم عرباً.

– وثالثٌ صال وجال في تقديم معلومات مغلوطة بنى عليها خطبته، التي رفع فيها المقاتلين في غزة إلى مرتبة “الصحابة”، وجلد العالم بأسره، بشرقه وغربه، بعربه وعجمه. فقال إنّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وافق على توطين الفلسطينيين في مصر، وإنّ إيران لا يوجد فيها أيّ مسجد سنّيّ!

إقرأ أيضاً: ورش عسكرية وسياسية وإعلامية داخل الحزب

في “أسر” الماضي السحيق

غالبية الخطب من هذا النوع لا تتوسّل أيّ هدف سياسي، بل هي نتاج فكر لا يزال أسير ماضٍ سحيق يختصر الإسلام ببضع مشهديّات فقط يعمل على استحضارها دائماً من أجل زرع أفكار مغلوطة في أذهان المتلقّين عن الدولة وآليّات الحكم، والحاكم والمؤسّسة الدينية، ليخلص إلى القول إنّ الحلّ هو فتح الحدود كي تهبّ جحافل المسلمين لإزالة إسرائيل من الوجود! في حين يقتل المسلمين بعضهم بعضاً من أجل كشك أو متر أرض أو ركن سيارة، أو من أجل سلطة في هذا البلد أو تغيير رئيس في ذاك. وبين المستمعين إلى هذه الخطب شريحة واسعة لا تفكّر إلا بالهجرة إلى “الفردوس” الأوروبي حتى لو عبر “قوارب الموت”.

يقول الكاتب والمفكّر الإسلامي السوري عبد الكريم بكار، خلال مشاركته في برنامج تلفزيوني على قناة “الجزيرة” عن الخطاب الديني الإسلامي، إنّ “كثيراً من صانعي الخطاب الديني غرقوا في الماضي، ولا يبذلون الجهد والوقت في استكشاف الواقع الذي يحتاج خطاب لإصلاحه. على المسلمين أن يجتهدوا لزمانهم، ولا بديل عن تجديد الخطاب الديني”.

في لبنان هذه الأيام، يبدو أنّ الخطب الدينية يوم الجمعة تغرق في “جهل” بعض رجال الدين، وعدم قدرتهم على القيام بأعباء توجيه الناس وتثقيفهم، فيقعون في المغالطات، وليس أكثرها إثارة للأسف مقتل المراهق الصيداوي بلا أيّ نتيجة أو تأثير.

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…