ما يتخوّف منه العالم في سنة 2024 سيكون حصراً المعلومات المزيّفة من خلال استخدام الذكاء الصناعي، الذي يشكّل نقطة نقاش مهمّة على جدول أعمال منتدى دافوس الذي يعقد في سويسرا حالياً تحت شعار “إعادة بناء الثقة”. فإلى جانب مناقشة النزاعات العالمية، سيُركّز المنتدى على الذكاء الصناعي الذي وصفه المنظّمون بأنّه “قوّة للاقتصاد والمجتمع”.
يعتبر هذا العام عاماً انتخابياً بامتياز، إذ ستجرى الانتخابات الوطنية في 77 دولة، أو في ثلث دول العالم: المملكة المتحدة، المكسيك، فنزويلا، الجزائر، الهند، السنغال، جنوب إفريقيا، روسيا، والولايات المتحدة… وسيتأثّر حوالي 4.1 مليارات شخص، أو أكثر من نصف سكان العالم، حيث إنّ 51% من سكان العالم يعيشون في بلدان دعيت إلى صناديق الاقتراع هذا العام.
ستنتخب 38 دولة رئيسها في عام 2024، وستصوّت 39 دولة في الانتخابات التشريعية البرلمانية. وهو رقم غير مسبوق، حتى لو أنّ بعض الانتخابات في بعض الدول ستكون فيها النتائج محسومة مسبقاً نظراً لعدم شفافية الانتخابات فيها بشكل عام.
سوف تُعقد هذه الانتخابات في سياق جيوسياسي واقتصادي مضطرب، يتّسم بحرب بين روسيا وأوكرانيا، وبأخرى بين إسرائيل وحماس لها تبعاتها الإقليمية، فضلاً عن تباطؤ النموّ العالمي. بالإضافة إلى كلّ ذلك، يرى المراقبون أنّ التهديد الأكثر أهمية يتمثّل في التضليل والتلاعب المرتبط بطفرة الذكاء الصناعي.
أوباما وترامب…
في عام 2008، كان باراك أوباما أول رئيس مرتبط باكتشاف إمكانيات الفيسبوك في حملته الانتخابية. تأثير التقنيّات الرقمية على الانتخابات والتلاعب بها ليسا وليدَيْ اليوم، ففي عام 2016 كانت أولى طفراته الواضحة ما عُرف يومها بـ”فضيحة كامبريدج أناليتيكا”. ففي السنوات السابقة ساهم المرشّحون وأحزابهم أيضاً بمحاولة تغيير في المشهد السياسي. في عام 2017، أبرزهم كان الرئيس السابق والمرشّح دونالد ترامب، أوّل رئيس أميركي مؤثّر على تويتر، الذي اتُّهم بالتلاعب بالمحتوى الذي جرى إنشاؤه بواسطة الذكاء الصناعي. وقد اعترفت اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري باستخدام أدوات الذكاء الصناعي لإنشاء الإعلانات، وهو ما يسلّط الضوء على الاعتماد المتزايد على هذه التكنولوجيا بين الجهات السياسية الفاعلة الرئيسة.
ما يتخوّف منه العالم في سنة 2024 سيكون حصراً المعلومات المزيّفة من خلال استخدام الذكاء الصناعي
في عام 2020، هيمنت المخاوف بشأن تأثير التكنولوجيا الرقمية على الديمقراطية، وهذا ما يضع الذكاء الصناعي خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية والانتخابات البرلمانية لعام 2024 في مركز الاهتمامات خوفاً من تأثير الذكاء الصناعي على الناخبين.
فقد كانت، ولا تزال، الانتخابات الأميركية تشكّل مسرحاً لإبداعات استراتيجية، ومواجهات أيديولوجية.
من المؤكّد أنّ التطوّرات التقنية الرقمية في الأعوام الأخيرة سيكون لها دور أساسي في هذه الحملات المتعدّدة، بالأخصّ أنّ التقاطع بين التكنولوجيا والسياسة يزداد نفوذه بشكلٍ كبير، وهو ما يثير أسئلة حاسمة حول نزاهة الانتخابات وتصبح إمكانية التشكيك فيها ممكنة.
Deepfakes… والتدخلات الأجنبية
في جميع أنحاء العالم، بدأت المخاوف من أثر التقنيات على العملية الانتخابية تأخذ بعداً متزايداً. وهذا يتعلّق أوّلاً بإمكانية التدخّلات الأجنبية في العمليات الانتخابية مصحوبة بانتشار المعلومات المضلّلة عبر منصّات وسائل التواصل الاجتماعي. لذلك تواجه العديد من الدول تحدّيات غير مسبوقة في الحفاظ على سلامة أنظمتها المعتبرة ديمقراطية. فالتقنيات الرقمية والمنصّات التي تسمح بنشر المعلومات بسهولة تتيح سهولة التلاعب في سلوكية الأفراد، وهو ما يشكّل معضلة بسبب التخوّف من عدم قدرة الناخبين على اتخاذ القرار المناسب.
أدوات الذكاء الصناعي، التي كانت مقتصرة في السابق على دوائر البحث أو المهندسين أو المطوّرين، أصبحت الآن متاحة على نطاق واسع لعامّة الناس، وغالباً ما تكون مجّانية. فقد سهّل إضفاء الطابع الشعبي على أدوات الذكاء الصناعي التوليدية مثل ChatGPT أو Midjourney إنشاء وتوزيع محتوى واقعي للغاية وأصوات زائفة وصور ومقاطع فيديو تسمّى “التزييف العميق” (Deepfakes)، يتمّ إنتاجها في بضع ثوانٍ.
في 2023 جرى تزييف بعض المقاطع التي انتشرت بشكل كبير. إذ بات بوسعنا رؤية البابا وهو يتجوّل في الشوارع مرتدياً سترة من ماركة “غوتشي”، أو إيمانويل ماكرون في هيئة من يقوم بالخدمات الكاثوليكية في تظاهرة ضدّ إصلاح نظام التقاعد في فرنسا، أو دونالد ترامب مكبّل اليدين.
في جميع أنحاء العالم، بدأت المخاوف من أثر التقنيات على العملية الانتخابية تأخذ بعداً متزايداً
والآن تنتشر على شبكات التواصل فيديوهات أحدها يبيّن ترامب على صورة مهرّج بعدما نعته بايدن بذلك في إحدى خطاباته. ومن جهة ثانية، يُتداول فيديو يظهر فيه بايدن ضائعاً لا يعرف طريق بيته بعدما ذهب إلى بقالة الحيّ لشراء الخبز.
التخوّف في الانتخابات لا يأتي فقط من الداخل، بل إنّ التهديدات الخارجية تنمو بشكل كبير. فمن الناحية النظرية، يمكن للمقرصنين وللجيوش الإلكترونية التابعة لمنظّمات وأحزاب داخلية أو أجنبية أو حتى لبعض الدول، استخدام الذكاء الصناعي لانتحال شخصية السياسيين الأميركيين أو غيرهم. وهو ما يخلق ارتباكاً بين الناخبين ويعرقل الثقة بالعملية الانتخابية. فالتهديد الرقمي جرّاء نشر معلومات كاذبة موجّهة يتيح للخوارزميات المتقدّمة الاستهداف الدقيق للناخبين، وبالتالي تضخيم تأثير التضليل والتلاعب بالرأي العامّ. ففي آخر إحصاءات جرت في الولايات المتحدة تبيّن أنّ أكثر من 50% من الأميركيين يعتقدون أنّ التزييف الذي ينتجه الذكاء الصناعي ستكون له عواقب على الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
سباق تشريعيّ للذكاء الصناعيّ في الحملات الانتخابيّة
لمواجهة هذه الآليّات المفتعلة والتهديدات، يبدو أنّ العمل على بناء تشريعات بات ضرورة حسب كلّ الفاعلين من صنّاع التقنيات والسياسيين. إذ تسارع السلطات إلى وضع ضمانات، مع اعتماد ولايات أميركية مثل “مينيسوتا” قوانين للملاحقة الجنائية للّذين يقومون بالتزوير الهادف إلى تشويه سمعة المرشّحين.
لكن على الرغم من هذه المقترحات يبقى التحدّي صعباً نظراً لسرعة تطوّر التقنيات الرقمية التي تتجاوز قدرة الأطر التنظيمية على التكيّف معها. لهذا أعرب بعض أعضاء الكونغرس الأميركي عن مخاوفهم بشأن قدرة الذكاء الصناعي على التحريض على العنف وزيادة الانقسام بين الناخبين الأميركيين. لذا يعتبر البعض أنّ من الضروري الجمع بين اليقظة والتثقيف مع هذه التشريعات المعتمدة.
إقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي: الإنسان “عبد” للتقنيّات؟
بعد بروز إمكانيّات “تشات جي بي تي” قبل عام، فإنّ الأمر الوحيد المؤكّد مستقبلاً هو نموّ برمجيات الذكاء الصناعي. فهل يكون المنتصر في الانتخابات هو الذكاء الصناعي، خاصة أنّ الانتخابات الأميركية غالباً ما تكون مختبرات لتكنولوجيات جديدة؟
2024 هو بالفعل عام انتخابي في ظلّ الذكاء الصناعي، مع مبارزة بين “تشات جي بي تي” ومنافسيه الذين ينظّمون ويحاولون السيطرة على جزء من الميدان الرقمي.
*استاذ باحث في حوسبة اللغة والإعلام الرقمي، ورئيس مركز الأبحاث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية.