منذ بداية الحرب في قطاع غزة إثر حدث 7 تشرين الأول تكرّرت إطلالات القيادي الفلسطيني محمد دحلان الإعلامية على منابر عربية ودولية. والرجل معارض للرئيس الفلسطيني ومبعد عن حركة فتح ويرأس “التيار الإصلاحي الديمقراطي” خارجها. ودحلان هو ابن قطاع غزة ويملك علاقات جيّدة مع قيادات حركَتي حماس والجهاد، لا سيما مع قائد “حماس” في غزة يحيى السنوار، بما قد يوفّر ترحيباً من الحركتين بدور يلعبه الرجل وتيّاره في غزة بعد الحرب.
حواران مع دحلان
في 15 تشرين الثاني أجرت الصحافية الأميركية الشهيرة هادلي غامبل مقابلة في دبي مع دحلان لجريدة التايم الأميركية. ولئن يطلّ دحلان من خلال منبر إعلامي أميركي عريق مجيباً على أسئلة صحافية أميركية ذاع صيتها في ما أجرته من مقابلات مع قادة هذا العالم، فإنّ في الحدث مخاطبة للولايات المتحدة والنخب الحاكمة في واشنطن وتوجّه إلى الرأي العامّ الأميركي (والدولي). لاحقاً، في 21 من الشهر الجاري كتبت غامبل منشوراً على موقع X / تويتر تعرب فيه عن سعادتها بما لاقته المقابلة من مشاهدة لدى الجمهور الأميركي وما أثارته من جدل وردود فعل. وعلى الرغم من جهلنا بظروف ترتيب المقابلة وحوافزها وحيثيّاتها وأجنداتها، فإنّها تأخذ بالاعتبار سياق موقف واشنطن ومقاربة الرئيس جو بايدن لحاضر الحرب في غزة وما يُدبّر لما بعد الحرب.
في مقابلته مع غامبل كرّر دحلان مواقف حادّة كان أطلقها في الأسابيع الأخيرة في إدانة إسرائيل واستنكار حربها ضدّ غزة وتبرير عملية “طوفان الأقصى” بوضع الحدث في سياق احتلال ثمّ حصار للقطاع وانسداد أيّ أفق فلسطيني عامّ. لكنّه في مقابلته مع المنبر الأميركي حمّل الولايات المتحدة مسؤولية ما وصلت إليه الأمور من انحدار، مؤكّداً بالمقابل أنّها وحدها القادرة على إحداث التحوّلات المطلوبة من خلال وضع ثقلها ونفوذها وضغوطها على إسرائيل لفرض تسوية السلام المتوخّاة.
قد يقع حراك دحلان داخل حالة ضبابية يمرّ بها المشهد الفلسطيني السياسي برمّته. فكلّ الفصائل الفلسطينية تراقب بحيرة وقلق ما ينتظر القضية الفلسطينية
كما التايم الأميركية، فإنّ صحيفة إيكونوميست البريطانية، في البحث عن مستقبل غزة، توجّهت إلى أبو ظبي ونشرت في 30 تشرين الأول الماضي مقابلة مع دحلان. بعدها في 11 تشرين الثاني أطلّ من منبر روسي على قناة “روسيا اليوم” وكأنّ العواصم تتفقّد معه مستقبلاً من غموض وضباب.
قد يقع حراك دحلان داخل حالة ضبابية يمرّ بها المشهد الفلسطيني السياسي برمّته. فكلّ الفصائل الفلسطينية تراقب بحيرة وقلق ما ينتظر القضية الفلسطينية. اعتادوا خلال العقود الأخيرة التحسّر على هامشيّتها في سلّم الأولويات العربية والدولية، وها هي تصبح بشكل صاعق قضية العالم الأولى. وإذا ما كرّرت السلطة الفلسطينية ورئيسها المطالبة بوقف الحرب والتوجّه نحو حلّ سياسي يشمل غزة والضفة، فإنّها تشعر أنّ أيّ سيناريو دولي جدّيّ سيتطلّب تغييراً جذرياً في الصف القيادي في رام الله.
على الرغم من تكرار دحلان بشكل غير مقنع زهده في السعي إلى أيّ منصب سياسي، إلا أنّ كثافة حضوره الإعلامي وطبيعة المواقف التي يدلي بها توحيان بأنّه يطلّ على كلّ السيناريوهات المتدافعة التي تناقش الوضع الفلسطيني العام، وفي قطاع غزة خصوصاً، في اليوم التالي لانتهاء الحرب، إضافة إلى أنّ هناك تناقضاً بين التعفّف عن قبول المناصب وتحرّكه الحيوي مع تيّاره لإطلاق ما يمكن أن يعبّد الطريق نحو نهايات مأمولة. وعلى أية حال فإنّ دحلان هو جزء من شخصيات عديدة يتمّ تداول أسمائها (ومنهم القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي) للعب أدوار أساسية لقيادة التمثيل الفلسطيني.
التبنّي الأميركيّ لحلّ الدولتين
يتحرّك كلّ اللاعبين الفلسطينيين وفق عوامل مستجدّة ومفاجئة تتعلّق بالمشهد السياسي الفلسطيني المحتمل. وأهمّ هذه العوامل الهمّة العجائبية التي يعبّر عنها الرئيس الأميركي وإدارته في واشنطن لوضع ثوابت لليوم التالي لانتهاء الحرب. تكرّر واشنطن أن لا مستقبل لحركة “حماس” في حكم القطاع أو أيّ عملية سياسية مقبلة. تؤكّد عدم موافقتها على احتلال القطاع من جديد من قبل إسرائيل. وتوافق على ما قاله منسّق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من ضرورة أن تقوم السلطة الفلسطينية بإدارة القطاع بعد الحرب، لكنّها تضيف إلى الأمر تسريبات حول الحاجة إلى قيادة جديدة لهذه السلطة حتى لو احتفظ الرئيس الفلسطيني عباس بمنصب فخري.
لكنّ أهمّ المستجدّات الأميركية هي تلك المتعلّقة بحلّ الدولتين. كان لافتاً أنّ الدعم الأميركي المفرط الذي عبّرت عنه واشنطن لإسرائيل منذ يوم “طوفان الأقصى” بما في ذلك دفع التعزيزات العسكرية الاستراتيجية الأميركية نصرة لإسرائيل، قد أُلحق بالجهر لاحقاً، على نحو انقلابي، بأنّ الحلّ الحقيقي لحرب غزة هو حلّ سياسي شامل يقيم دولة للفلسطينيين. أعاد الأمر تعويم “حلّ الدولتين” الذي تمّ وأده في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب وهمّة مستشاره وصهره جاريد كوشنر.
بغضّ النظر عن أجندة الولايات المتحدة في الاستفاقة على فلسطين والشعب الفلسطيني ودولته المأمولة، وسواء كان ذلك لمصالح استراتيجية أميركية أو لمنافع انتخابية للرئيس المرشّح جو بايدن، فإنّ تكرار الأمر في كلّ المناسبات على لسان الرئيس وحمل وزير الخارجية ملفّ “حلّ الدولتين” وإعادة تسويقه لدى رام الله والعواصم العربية المعنيّة يجدان ترجمتهما عند حصول تحوّل منتظر داخل مشهد الحكم في إسرائيل وتحوّل ملحّ في المشهد السياسي الفلسطيني العامّ.
دحلان هو ابن قطاع غزة ويملك علاقات جيّدة مع قيادات حركَتي حماس والجهاد، لا سيما مع قائد “حماس” في غزة يحيى السنوار، بما قد يوفّر ترحيباً من الحركتين بدور يلعبه الرجل وتيّاره في غزة بعد الحرب
الواقع أنّ الصفقة التي أُبرمت لمبادلة محتجزين إسرائيليين من النساء والأطفال بأسرى فلسطينيين من النساء والأطفال هي صفقة أميركية بامتياز. عملت مصر وقطر على لعب دور الوساطة وتوصيل الرسائل، غير أنّ إدارة بايدن وضعت ثقلها للضغط على “مجلس الحرب” والحكومة الإسرائيلية وعلى رئيسها بنيامين نتانياهو للقبول بمبدأ التفاوض ثمّ “الإذعان” للشروط التي لم تكن مقبولة إسرائيلياً. وإذا ما خرج بايدن ليتحدّث عن دوره شخصياً في التواصل مع نتانياهو والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد للوصول إلى الصفقة، فذلك لتأكيد نفوذه ونفوذ إدارته في إنجاز الاتفاق.
الصفقة نموذج لافت لما يمكن للولايات المتحدة أن تفرضه على إسرائيل إذا ما أرادت واشنطن أن تكون واضحة في أهدافها وحاسمة في أدواتها وحازمة في ضغوطها. والصفقة تعبّر عن ذهاب واشنطن نحو اعتماد نهج مختلف مع إسرائيل يجعل الأخيرة داخل سياق السياسة الخارجية الأميركية ويضع حدّاً لتغريد إسرائيل خارج السرب التقليدي للولايات المتحدة وأجنداتها. ولئن يضع بايدن مصر وقطر في صلب الحراك الأميركي، فإنّ للدولتين دوراً في إحداث تحوّلات تحضّر قطاع غزة والوضع الفلسطيني لتغييرات لافتة.
ترتيب البيت الفلسطينيّ
من تلك التحوّلات استضافة قناة الجزيرة، الجمعة، القيادي الفلسطيني سمير المشهراوي بصفته نائب دحلان في قيادة “تيار الإصلاح الديمقراطي” في حركة فتح، بما يمثّل انتهاء لقطيعة سياسية مع التيار الدحلانيّ، إضافة إلى وجود المشهراوي وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح المقال ناصر القدوة في الدوحة ولقائهما مع قيادات في حركة حماس، ومنها إسماعيل هنية وخالد مشعل. وأهمية اللقاء أنّه يجري في الدوحة بعدما سبق للمشهراوي أن اجتمع مع هنية وقيادات “حماس” و”الجهاد” في القاهرة قبل ذلك، بما يعكس وظيفة العاصمتين في تسهيل تحوّلات فلسطينية مقبلة.
تقول مصادر “التيار” إنّ المشهراوي جاء إلى قطر بدعوة من هنيه لاستكمال المشاورات بعد اجتماع القاهرة، وإنّ “التيار” يبحث مع “حماس” وآخرين ضرورة “طرح مبادرة سياسية أساسها وقف إطلاق النار وإعطاء شعبنا أملاً بحجم ما دفعه من ضحايا”. يضيف المصدر أن لا شيء تبلور بشكل نهائي، “لكنّ الأجواء مشجّعة”. ويوضح أنّ السعي هدفه أن “لا يُفرض علينا حلّ خارجي وارتأينا نحن كفلسطينيين أن نقدّم مبادرة نناقشها بعد ذلك مع الدول المعنية”.
إقرأ أيضاً: حلّ الدولتين: ضجيج.. لتمرير المجزرة
كانت معلومات نشرها الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو في صحيفة لوفيغارو الفرنسية كشفت أنّ قطر قد تلقّت ضمانات إسرائيلية بعدم التعرّض لقيادات حماس الموجودين في الدوحة. أتت تلك الضمانات بعدما أعلن نتانياهو أنّه طلب من جهاز الموساد الإسرائيلي القيام بعمليات لتصفية قيادات حماس في الخارج. والأرجح أنّ الولايات المتحدة لن تسمح لإسرائيل بتعطيل الدور الذي تلعبه قطر، بما في ذلك استضافتها لعدد من قيادات حماس، لإحداث تغييرات تدريجية يلاقي فيها الفلسطينيون ما قد يستجدّ في الولايات المتحدة والعالم من حاجات طارئة تُحسن تدبير الصراع وتوفير مخارج له.
تحتاج “حماس” إلى شريك مثل دحلان يمتلك شبكة من العلاقات العربية والدولية المعقّدة تأمن لها في ظروف ترفض فيها إسرائيل وواشنطن وحلفاؤها أيّ حضور للحركة في مستقبل القطاع. ويحتاج دحلان إلى الحاضنة التي تمتلكها “حماس” داخل غزة كما داخل الجمهور الفلسطيني لاكتساب مداخل دور وحضور في مستقبل فلسطين. يعرف الرجل أنّ لحظة تاريخية قد تناديه فيُكثر من الزهد حتى ينضج القطاف.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@