غزّة تهزّ فرنسا: تمرّد دبلوماسي وقضائي على ماكرون

مدة القراءة 6 د


تشهد مؤسّسات الحكم الفرنسية الحالية سابقتين في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة المعاصرة:

1 – السابقة الأولى دبلوماسية وسياسية

انتقلت عدوى “التمرّد الدبلوماسي” حول الموقف من حرب غزّة، من الخارجية الأميركية إلى الخارجية البريطانية والخارجية الفرنسية. وفي فرنسا تقاطع “التمرّد” مع الاختلافات السابقة عليه، في وجهات النظر، حول السياسة الخارجية، بين “الإليزيه” (القصر الرئاسي) و”الكي دورسيه” (وزارة الخارجية).

فقد نشرت “لوفيغارو” الأسبوع الماضي أنّ عشرات السفراء والدبلوماسيين، خصوصاً من منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي، أرسلوا معترضين على انحياز فرنسا إلى جانب إسرائيل، باعتباره انقلاباً على موقف باريس المتوازن تاريخياً من هذا الصراع.

“رسالة التوجيه الدبلوماسية” التي وجّهها هؤلاء السفراء سابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة. لأنّها شكّلت اعتراضاً علنياً من رؤساء البعثات الدبلوماسية على سياسة بلدهم الخارجية، فيما هم معنيّون في العادة فقط باحترام هذه السياسة وتطبيقها والالتزام بها.

انتقلت عدوى “التمرّد الدبلوماسي” حول الموقف من حرب غزّة، من الخارجية الأميركية إلى الخارجية البريطانية والخارجية الفرنسية

في العادة، تُعتبر طبيعية الرسائل بين وزارة الخارجية وممثّليها من السفراء ورؤساء البعثات، إذا حافظت على سرّيتها. وهي من روتينيات العمل الدبلوماسي وإدارة السياسة الخارجية لكلّ دولة إذا لم تخرج إلى العلن.

لكن انحياز فرنسا في القضية الفلسطينية دفع هؤلاء إلى التذكير بضرورة احترام القوانين الدولية والمواثيق الإنسانية. وهذا يعبّر عن قلق دبلوماسي من مواقف الإدارة الفرنسية اتجاه العالم العربي، خصوصاً في حرب غزّة، الأمر الذي وضعهم أمام حالة عربية لا تثق بهم كثيراً، ما يلحق بموقع فرنسا ودورها في الشرق الأوسط أضراراً كبيرة.

كيف “صُنِعَ” التحوّل؟

لطالما كان هناك تباينات داخل الإدارة السياسية، وبين المؤسّسات الدستورية والسلطة القضائية، إلى جانب انقسامات عامودية بين الأحزاب السياسية، وداخل المجتمع الفرنسي، تصل إلى الشارع.

تاريخياً يعتمد “الإليزيه” دائما على الـ”كي دورسيه” في السياسة الخارجية. فهو مختبرها الأساسي ومطبخ سياساتها. تراجع هذا التناغم في المدّة الأخيرة. وخرجت شكاوى اعتراضاً على سيطرة فريق من السفراء النافذين في وزارة الخارجية، داعمين للكيان الإسرائيلي. وتزامن هذا مع “سيطرة” فريق “الإليزيه”، المعاون للرئيس إيمانويل ماكرون، على السياسة الخارجية، وانتزاعه من فريق وزارة الخارجية صفة الإقرار النهائية في العديد من الملفّات والقضايا. هذه المنافسة ولّدت خلافات كثيرة، وتسبّبت ببطء الحراك على المستوى الدولي، وخرجت تصريحات جرى تراجع عنها لاحقاً.

“رسالة التوجيه الدبلوماسية” أدّت إلى تحوّل واضح تجلّى في الآتي:

– تغيير في “اللغة الخارجية”، من دعم مطلق للكيان الإسرائيلي ولـ”حقّه في الدفاع عن النفس”، إلى الدعوة لـ”حماية المدنيين واحترام القانون الدولي”.

– التشديد على مبدأ حلّ الدولتين وفق المبادرة العربية للسلام من قمّة بيروت في العام 2002 وضمن حدود العام 1967.

– الضغط من أجل الوقف الفوري لإطلاق النار عوضاً من المطالبة سابقاً بهدن إنسانية فقط.

– المؤتمر الدولي الإنساني.

تعتبر هذه اللحظة تاريخية فرنسياً ودولياً. إذ توجد لدى الدولة الفرنسية وقضائها في هذه القضية فرصة سانحة من أجل ترسيخ مبدأ عدم وجود حصانة للجرائم الدولية الأكثر خطورة، وحتى على أعلى المستويات

2 – السابقة الثانية قانونية وقضائية

أصدر القضاء الفرنسي مذكّرة اعتقال وتوقيف دولية بحقّ الرئيس السوري بشار الأسد وشقيقه ماهر، بتهمة “التواطؤ في جرائم ضدّ الإنسانية بهجمات كيميائية” وفي “جرائم حرب”. وتعدّ المرّة الأولى في تاريخ فرنسا التي يتعرّض فيها رئيس دولة في منصبه لمذكّرة اعتقال في دولة أخرى أثناء تولّيه السلطة. أتى هذا الإجراء القضائي عقب تحقيق جنائي أجرته الوحدة المتخصّصة في الجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب التابعة للمحكمة القضائية في باريس بناء على شكوى جنائية ذات طابع مدني من حيث الشكل.

تعتبر هذه اللحظة تاريخية فرنسياً ودولياً. إذ توجد لدى الدولة الفرنسية وقضائها في هذه القضية فرصة سانحة من أجل ترسيخ مبدأ عدم وجود حصانة للجرائم الدولية الأكثر خطورة، وحتى على أعلى المستويات.

يحقّ لفرنسا استخدام مبدأ “الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية” (Extraterritorial jurisdiction) للتحقيق بالجرائم الفظيعة الدولية المرتكبة على أراض أجنبية ومحاكمة مرتكبيها بظروف محدّدة ومعيّنة. يؤكّد قانون العقوبات الفرنسي في مادّته (“Code pénal, art. 113-6 à 113-12 )، على الولاية القضائية العامة على الجرائم التي يرتكبها مواطنو البلد أو المُرتَكبة ضدّهم، بصرف النظر عن مكان وقوعها. وفي سبيل وضع حدّ لثغرة التهرّب من العقاب على الجرائم المرتكبة، أوضح القانون الدولي أنّها لا تتقادم، الأمر الذي يعني عدم وجود “فترة زمنية محدّدة لإجراء المحاكمة”، أي أنّ المجرمين يمكن محاكمتهم ولو بعد عقود.

تخضع هذه التهم كذلك للعقوبات من قبل هيئة قضائية دولية بقائمة شاملة في قانون المحكمة الجنائية الدولية، إذ تتناسب هذه التهم مع إشكالية الانتقال من مفهوم التشريعات الوطنية إلى القوانين الدولية. تمّ ذلك مع توسيع اتفاقية جنيف لعام 1949 مروحتها القانونية العملية من خلال التسهيل التنفيذي لمبدأ “الاختصاص القضائي العالمي في قوانينها” وربطها كذلك الأمر عبر المحاكم الوطنية.

القضاء يحمي الدولة الفرنسية…

هذا الانقسام جعل الإدارة الفرنسية تشعر بخوف “داخليّ” قبل أن تخاف على نفوذها في الشرق الأوسط والمنطقة العربية. فقد وصلت تداعيات حرب غزّة إلى “الداخل” الفرنسي. وربما أكثر من حرب أوكرانيا. فاستنتج كثر من صنّاع السياسة والقرار الفرنسيّين الفجوة الكبيرة بين الإدارة الفرنسية والمجتمع داخل مؤسّسات الحكم الدستورية. ولاحظوا أخيراً خلال أحداث حرب غزّة التباين الكبير بين الغرب والشرق من خلال قمّتي القاهرة والعربية – الاسلامية في المملكة العربية السعودية.

إقرأ أيضاً: فرنسا خائفة: ماكرون واحد من ضحايا غزّة

لذلك كان التحرّك من جناحين أساسيّين في فرنسا: الدبلوماسية والقضاء.

جاءت “الرسالة” كفكرة مُبادِرة تتقصّى إمكانية مساعدة الدبلوماسية الفرنسية وحثّها للعودة إلى مرتكزاتها وأصولها. وهذا ما فعلته بالضبط السلطة القضائية المستقلّة في فرنسا، التي أصدرت مذكّرة التوقيف القضائية بحقّ الأسد وشقيقه. وهذا دليل على أنّ الدولة الفرنسية تحمي شعار جمهوريّتها الثلاثي: “الحرّية العدالة والأخوّة”.

لكن هل ننتظر صدور مذكّرات اعتقال وتوقيف بحقّ المجرمين في الكيان الإسرائيلي على خلفية ارتكابهم مجازر إبادة في فلسطين المحتلّة وفي قطاع غزّة تحديداً؟

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…