الأمل الذي لا شفاء منه وهو السلام، عبارة نكرّرها بدون توقّف. وقد سمعتُ الراحل الدكتور جابر عصفور مرّةً يقول: الدعوة إلى السلم ليست دعوة الضعفاء، بل هي دعوة الحكماء والحريصين على الحياة الإنسانية. لكنّني والحقّ يُقال ما سمعتُ مرّةً قويّاً أو يعتقد أنّه قويّ في نزاع يدعو إلى السلم، بينما لا يطلب الضعيف السلم، حتى لا يُعتبر استسلاماً، بل يطلب العدل! فمن هو فريقُ السلم؟
فريق السلم هو المنظّمات الإنسانية والعفو الدولية وحقوق الإنسان والصليب الأحمر والهلال الأحمر وأطبّاء بلا حدود وسائر المدنيين الذين يخشون على أولادهم وعائلاتهم.
بعد فوات الأوان
كلّ ما يحدث الآن يحدث بعد فوات الأوان. الحرص على عدم إيذاء المدنيين. والحرص على إخراج الأميركيين والأوروبيين من غزّة. والحرص على عدم تهجير الفلسطينيين للمرّة الثالثة أو الرابعة. والحرص على إدخال المساعدات الغذائية والطبّية.. إلخ. لا أحد يتحدّث عن وقف إطلاق النار. والدعوة إلى العدالة تعني استمرار الحرب. لا بدّ من وقف النار أوّلاً ثمّ تتوالى المطالب والتوقّعات. فهل يستطيع المصريون والسعوديون والقطريون الذين زارهم بلينكن، الذي قال إنّه يهودي قبل أن يكون وزيراً للخارجية الأميركية، إقناعه بأن لا تهجير ولا مزيد من القصف لكي تقوم المواطن الآمنة وتتقدّم المساعدات.
بالطبع نحن لا نستطيع أن نكون محايدين، لكنّ ما قرأناه في الأيام الأخيرة في “فورين أفيرز” و”نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” يُشعر بحالةٍ من نوم الضمير الإنساني أو انعدامه. فكلّ المعلّقين المشهورين مذهولون من غفلة إسرائيل، ومذهولون من جرأة “حماس” وقوّتها.
بعد حرب غزّة التي لن تنتهي هذه المرّة إلّا إلى كارثة عظمى سيكون الفلسطينيون أضعف لجهة القوى العسكرية، وسيقضون سنوات لتضميد الجراح وإعادة الإعمار، وستأمل إسرائيل أن تعود الجبهات من حولها إلى الهدوء
أمّا الأوروبيون (أهل القارّة العجوز كما كان يسمّيهم رامسفيلد) فلا همَّ لهم غير إثبات الولاء لإسرائيل وعرض كلّ مساعدة لها ضدّ الإرهابيين. وهكذا لدى المعلّقين الأميركيين ولدى المسؤولين الأوروبيين تغييب للقضية الفلسطينية، قضية الملايين الذين احتلّ الآتون من أوروبا أراضيهم، وهجّروا ملايين منهم، وقتلوا عشرات الألوف وما يزالون يفعلون. وإذا اهتمّ أحدهم بالغزو البرّي وما بعده فلأنّهم حريصون على أن لا ترتبك إسرائيل مرّةً أخرى بعد النصر المؤزَّر! وهكذا السؤال الذي يُوجَّه إلى “حماس” يُوجَّه إلى إسرائيل والعالم: ماذا بعد؟ بعد قتل آلاف الفلسطينيين وتهجير مليون منهم، وقتل ألفَي إسرائيلي، ماذا يحصل أو ينبغي أن يحصل؟ في الحرب الرابعة أو الخامسة (نسيت لكثرة الحروب!) اندفعت عدّة جهات لإعادة الإعمار، بيد أنّ ما حصل جهدٌ دوليّ أو عربي حقيقي لتغيير المشهد والخروج من الحروب المتقطّعة على الضفّة والأقصى والمخيّمات وضربات المستوطنين والاعتداء حتى على الحرم الإبراهيمي بالخليل وتغوُّل المستوطنات والقتل اليومي. فإسرائيل بحكوماتها اليمينية لا تريد السلام. وتعتقد أنّ التطبيع مع العرب يُلغي القضية الفلسطينية. وقد عرض نتانياهو بالأمم المتحدة خارطةً لفلسطين التاريخية وزعم أنّها أرض إسرائيل وما ردَّ عليه أحد!
بانتظار الكارثة العظمى
بعد حرب غزّة التي لن تنتهي هذه المرّة إلّا إلى كارثة عظمى سيكون الفلسطينيون أضعف لجهة القوى العسكرية، وسيقضون سنوات لتضميد الجراح وإعادة الإعمار، وستأمل إسرائيل أن تعود الجبهات من حولها إلى الهدوء، وتنصرف هي لتلقّي المساعدات من أميركا ومن أوروبا. في حين يتابع الجيش والأمن والمستوطنون الحملات في الضفّة والقدس، إلى أن تعود الحرب السابعة أو الثامنة (التي قد لا تكون من غزّة بل من سورية وجنوب لبنان باعتبار أنّ أراضيهما محتلّة). إيران الآن أقوى وتتحكّم بثلاث جبهات. وقد احتار عبد اللهيان كيف يوفّق بين عدم المشاركة في الحرب الآن، وبين إثبات سيطرة إيران في سائر الجبهات، ثمّ اختار أن يضع المسؤولية على كتفَي حسن نصر الله العريضَين.
… وهناك إمكانيات لمشهدٍ آخر لكنّها ليست قويّة. أولى الإمكانيات أن يُقنع الأميركيون إسرائيل بالعودة إلى التفاوض على السلام أو على متابعة عملية أوسلو. ويكون على “فتح” أن تجدّد قيادتها بهذا الاتجاه. وقد يكون من ضمنها مروان البرغوثي إذا خرج من السجن بالتبادل المتوقَّع. “حماس” والإيرانيون مهما بلغ ضعف حماس بعد الحرب لن يقبلوا وسيقولون إنّها حيلةٌ للتأجيل وهم لا يقبلون مشروع الدولة على أراضي 67 ويريدون تحرير كامل فلسطين. واليمين الإسرائيلي الذي صعقته الضربة أيضاً لن يقبل لأنّه لا يريد إعطاء الفلسطينيين شيئاً حتى لا يطمعوا بما هو أكثر. ومن المفروض أن يكون هناك تعاون عربي مع الأميركيين خلال العمل على العودة إلى التفاوض. فإذا حصل اليأس، فيستطيع العرب الدعوة إلى مؤتمر دولي تساعدهم فيه روسيا والصين ولا تعارضه أوروبا باعتبار أن لا حلّ آخر أو يتفاقم النزاع والقتل من جديد، فيزداد تحكّم إيران بالموقف.
إنّ المعنى المقصود من هذا كلّه أنّ العرب لا يستطيعون أن يبقوا جانباً، وليس مسموحاً لغير قطر أن تعطي “حماس” أموالاً عبر مطار بن غوريون. لا بدّ أن يستطيع العرب مجتمعين الضغط على أميركا وإسرائيل من أجل الحلّ السلمي الذي يهدّئ الأمل به الأوضاع، ويجعل العرب بمأمن من أن يصل إليهم العنف عبر الأردن ولبنان والعراق كما وصل الكبتاغون والمسيَّرات المسلَّحة. ثمّ ماذا يفعل ستة ملايين فلسطيني بدون أمل؟
إقرأ أيضاً: هل من مخرجٍ من هذه الحرب الأبديّة؟
من يحكم غزّة بعد شهرٍ أو شهرين؟ هل يدخل الإسرائيليون على الأنقاض؟ هل تعود السلطة الفلسطينية بمساعدة مصر؟
على كلّ حال لا ينبغي أن يكون هناك فراغ، بل ينبغي السير باتجاه تقوية السلطة وباتجاه التفاوض على السلم وباتجاه إعادة الإعمار. نحن في لبنان لو لم تساعدنا المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى عام 2006 لما استطاع كثيرون العودة إلى الجنوب.
الأمل الذي لا شفاء منه هو أمل السلم ليس في فلسطين فقط، بل وفي لبنان وسورية والعراق واليمن. ومَنْ عنده إسرائيل وإيران لا يحتاج إلى مزيدٍ من الأعداء. ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@