“الخلود لله: الدوام والبقاء لله، لا بداية ولا نهاية”. هكذا يعرّف معجم المعاني الجامع كلمة خلود. في فرنسا أعطِيَت هذه الصفة لعظماء في الفلسفة والأدب والشعر والرواية والصحافة والتاريخ والعلم والدبلوماسيّة والسياسة… خلّدوا اللغة الفرنسيّة بمؤلّفاتهم. فأصبحوا خالدين في “الأكاديميّة الفرنسيّة” الخالدة. في عام 2011 انضمّ إليهم اللبناني الأصل أمين معلوف بانتخابه عضواً على كرسي “كلود ليفي ستروس”. بدأ حياته صحافيّاً يكتب باللغة الفرنسيّة. ثمّ تفرّغ لكتابة الرواية. نشر حتى اليوم 18 كتاباً. عالج فيها مواضيع تاريخية ودينيّة واجتماعيّة وحضاريّة وثقافيّة وغيرها ساهمت في إشعاع اللغة الفرنسية وتخليدها. وفي 28 أيلول الفائت أصبح رئيس “الخالدين” بانتخابه أميناً دائماً للأكاديميّة الفرنسيّة. إنّه اليوم رئيس أعلى صرح أكاديميّ فرنسيّ مدى الحياة.
أكاديميّة لتخليد اللغة
أُسّست الأكاديميّة الفرنسيّة في 1635. في تلك الفترة كانت اللغة الفرنسيّة هي اللغة الأولى في أوروبا بعد تراجع اللاتينيّة. أغنت مفرداتها اللغتين الألمانية والإنكليزيّة. واستمرّت الفرنسيّة لغة الدبلوماسيّة والمعاهدات والمواثيق الدوليّة حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهي اليوم إحدى لغات منظمة الأمم المتحدّة الرسميّة الخمس. تتمّ العودة إليها عند نشوب خلاف على تفسير أحد مقرّراتها. وأبرز الخلافات كانت حول القرار 242 الذي يؤكّد نصّه الفرنسي على وجوب انسحاب إسرائيل من “الأراضي التي احتلّتها عام 1967” وليس من “أراضٍ احتلّتها”، كما أتى في النصّ الإنكليزيّ.
أسّس الأكاديميّة الكاردينال “دو ريشوليو”. ووقّع مرسوم التأسيس الملك لويس الثالث عشر. وما يزال التأثير الكنسيّ مستمرّاً فيها حتى اليوم بانتخاب كهنة أو أساقفة أعضاء فيها. تبرز مرجعيّتها الملكيّة، حتى بعد قرون على سقوط هذه الأخيرة، من خلال اللباس الرسميّ الأخضر والسيف. يرتدونه الأعضاء في المناسبات والاجتماعات الرسميّة. وحدهم رجال الدين مُعفون منه. أمّا النساء فاستعضن عن السيف بحقيبة يد “ملكيّة” بزركشاتها.
بدأ العمل لإصدار الطبعة التاسعة في 1992. على الأمين الدائم الجديد أمين معلوف إنجازها. ربّما هي الطبعة الأكثر صعوبة في تاريخ الأكاديميّة نظراً للتحدّيات التي تواجه اللغة الفرنسيّة في عصر العولمة والثورة التكنولوجيّة
في البداية عيّن الملك الكاردينال “دو ريشوليو” رئيساً وحافظاً للأكاديميّة. وهي مسؤولية تُناط اليوم بالرئيس الفرنسيّ، الذي يعطي موافقته على انتخاب الأعضاء الجُدد في الأكاديميّة.
هدف الأكاديميّة تخليد اللغة الفرنسيّة من خلال العناية بها والحفاظ على نقاوتها وبلاغتها. لذلك سُمّي أعضاؤها بالخالدين (Les immortels). منذ البداية حُدّد عدد أعضائها بـ 40 عضواً. عند شغور أيّ كرسي بسبب الوفاة، ينتخب الأعضاء الخالدون العضو الجديد. عدد أعضاء الأكاديميّة اليوم 35. ينتظرون بروز من يستحقّ الانضمام إليهم في تخليد اللغة الفرنسيّة ليصبح عددهم 40.
“خالدون” في الأكاديميّة الخالدة
منذ البداية ضمّت الأكاديميّة الفرنسيّة روّاداً في الأدب والشعر والفلسفة والرواية أمثال هوغو، وفولتير، ومونتسكيو، وغيرهم… بعد ذلك راحت تضمّ عظماء في مجالات أخرى ساهموا في إشعاع اللغة الفرنسيّة وثقافتها أمثال السياسي والدبلوماسي والمؤرّخ والشاعر لامارتين (1829) الذي زار لبنان وأقام فيه لفترة، والعالِم في الطبّ لويس باستور (1881)، والدبلوماسيّ فردينان دو ليسبس (1885) الذي شقّ قناة السويس، والسياسيّ ريمون بوانكاريه (1909)، وغيرهم. بيد أنّ بعض العظماء الفرنسيين، أمثال بالزاك وغوستاف فلوبير، بقوا خارج الأكاديميّة وكان لهم كبير الأثر في الحفاظ على اللغة الفرنسيّة وخلودها.
قاموس الأكاديميّة
صدر أوّل قاموس للأكاديميّة الفرنسيّة في عام 1694، أي بعد حوالي ستّين عاماً على تأسيسها. تمّ إهداؤه للملك لويس الرابع عشر. بعدها صدر القاموس في طبعات أخرى. استغرق العمل في كلّ واحدة منها عقوداً. صدرت الطبعة الثانية في 1718، والثالثة في 1740، والرابعة 1762، والخامسة 1798، والسادسة 1835، والسابعة 1878، والثامنة 1932-1935. صدرت كلّ طبعة في عدّة أجزاء يضمّ كلّ منها مئات الصفحات.
بدأ العمل لإصدار الطبعة التاسعة في 1992. على الأمين الدائم الجديد أمين معلوف إنجازها. ربّما هي الطبعة الأكثر صعوبة في تاريخ الأكاديميّة نظراً للتحدّيات التي تواجه اللغة الفرنسيّة في عصر العولمة والثورة التكنولوجيّة.
اللغة الفرنسيّة ليست لغة دولة فرنسا فحسب، إنّما هي لغة 88 دولة. في بعض منها، هي لغة الدولة، وفي بعضها الآخر هي اللغة الثانية ولغة التعليم، كما في لبنان
تحدّيات اللغة الفرنسيّة
أبرز التحدّيات التي تواجه اللغة الفرنسيّة:
1- طغيان اللغة الإنكليزية – الأميركيّة. بعدما كانت اللغة الفرنسيّة هي المُلهمة والمؤثّرة في اللغة الإنكليزيّة وأغنتها بالمفردات والتعابير، نشهد اليوم مساراً معاكساً. إذ تدخل كلّ يوم مفردات وتعابير أميركيّة إلى اللغة الفرنسيّة (كما إلى لغات العالم أجمع). والسبب، كما هو معروف، أنّ اللغة الإنكليزيّة – الأميركيّة هي “لغة العالم” منذ بدء عصر العولمة في ثمانينيات القرن الماضي وتبوّؤ الولايات المتحدة الأميركيّة موقع الريادة في الثورة التكنولوجيّة. فالإنكليزيّة اليوم هي لغة التكنولوجيا والمال والاقتصاد والتجارة وحتى السياسة والدبلوماسيّة وغيرها من المجالات.
2- الثورة التكنولوجيّة وسرعة اكتشافاتها وتشعّب العلوم المنبثقة عنها أدخلت إلى عالم اللغة مفردات وتعابير لم تكن موجودة. ويعود إلى الأكاديميين الفرنسيين تطوير اللغة وتحديد تلك المفردات وإعطاؤها تعريفات بما يتناسب مع أصول اللغة.
3- تطوّر وسائل التواصل الاجتماعيّ وتأثيرها على اللغة الفرنسيّة، كما على باقي لغات العالم. فهي أدّت إلى “اختراع” مفردات تسلّلت إلى عالم الصحافة ومنه إلى الرواية والشعر والأدب…
لغة 321 مليون نسمة
اللغة الفرنسيّة ليست لغة دولة فرنسا فحسب، إنّما هي لغة 88 دولة. في بعض منها، هي لغة الدولة، وفي بعضها الآخر هي اللغة الثانية ولغة التعليم، كما في لبنان. والفرنكوفونيون ليسوا الفرنسيين فقط، بل هم عدّة شعوب يبلغ عددها حوالي 321 مليوناً. بعضهم اليوم يناصب العداء للدولة الفرنسيّة، كما هي الحال في دول الساحل الإفريقي.
بالتالي مهمّة الأكاديميّة اللغوية لا تعني الشعب الفرنسي فقط، بل شعوب أخرى كثيرة. لذلك ليس غريباً أن تضمّ الأكاديميّة أعضاء من أصول غير فرنسيّة. ولكنّها المرّة الأولى التي يُنتخب فيها أمين دائم من أصول غير فرنسيّة. وهو اللبنانيّ أمين معلوف.
إقرأ أيضاً: أمين معلوف… الشرق يشرق في الغرب
“المجد الخالد” الذي ارتقى إليه أمين معلوف لم يُنسهِ بلده الأصلي الذي هاجر منه منذ أربعة عقود. فلبنان المتنوّع حاضر في كتاباته وخطاباته. والتعدّدية اللبنانيّة الدينيّة والطائفيّة والثقافيّة كان لها الأثر الكبير في نظرته للحضارات والثقافات التي عالجها في رواياته التي أوصلته إلى أن يكون “خالداً” بين “الخالدين”.
عندما سُئل “هل هي لحظة (لحظة انتخابه) عظيمة للبنان، بلدك الأصلي؟”، أجاب بتواضع العظماء: “سعيد أنّ انتخابي قدّم شيئاً من الفرح في لبنان”. بالفعل إنّها لحظة فخر للبنان واعتزاز للّبنانيين. لحظة إشعاع لبنانيّ في زمن البؤس اللبنانيّ.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@