كنتُ أُعدُّ نفسي لكتابة شيءٍ عن طه حسين بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته عام 1973. ولديَّ مع العميد مناسبتان: مقابلته مع زملاء من الطلبة “الشوام”، كما كان المصريون يسمّوننا، عندما كنّا ندرس بالأزهر، عام 1968. والمناسبة الثانية عام 2022 عندما اختار مركز اللغة العربية بأبو ظبي طه حسين شخصيةً للعام في معرض الكتاب الدولي بأبو ظبي. بالمناسبة أو للمناسبة أعاد المركز نشر مؤلّفات طه حسين جميعاً بالاتفاق مع دار المعارف المصرية. ومن هذا الطريق، أمكن لي خلال ثلاثة أشهر القيام بقراءةٍ سريعةٍ لكلّ التراث الحسينيّ الكبير والمثير. المثير في نهضويّته وتنوّعه وإبداعه. فحتى في مجال الدراسات الإسلامية كان طه حسين مجدِّداً ومبدعاً.
طه حسين اللبنانيّ
في الأيام الأخيرة، كنت أتكلّم مع الصديق الدكتور خليل الشيخ، فأطْلعني، إذا صحّ التعبير، على ملفّ طه حسين اللبناني، وأرسل لي مقالات وتعليقات عن زياراته للبنان وتفاعل الكُتّاب اللبنانيين مع محاضراته ومقابلاته. ما أردْتُ هنا تلخيص محاضرته باليونيسكو عام 1955، التي قال فيها إنّ الحداثة والإبداع ينتقلان من مصر إلى لبنان، لكنّه عندما ذُكّر بذلك فيما بعد أجاب أنّه قال: يوشكان أو يكادان! فقد كان وقتها يواجه حملاتٍ بمصر إلى جانب العقّاد وتوفيق الحكيم، من جانب التقدّميين والشيوعيين باعتبارهم محافظين أحياناً ورجعيين أحياناً أُخرى، لجهات وظائف الأدب ومهمّاته وسط التيار الجارف للواقعية الاشتراكية! في بيروت أجرت مجلّة الآداب التي كان سهيل إدريس قد أصدرها عام 1953 حواراً بينه وبين رئيف خوري حول الالتزام في الأدب. وكما كانت لطه حسين مشكلات مع التقدّميين في مصر، كانت لرئيف خوري التقدّمي في الأصل، مشكلات مع شيوعيّي لبنان وسورية، بسبب خروجه على تعليمات الحزب في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية وما يتعلّق بمعايير الالتزام بالواقعية الاشتراكية. رئيف خوري الذي تحدّث أوّلاً اعتبر الالتزام نتيجةً من نتائج حرّيات الأديب، ولا أدب بدون حرّية. ولذلك لم ينسَ أن ينتقد الأدب السوفيتي لافتقاره إلى الحرّية. وعندما جاء دور طه حسين في الكلام على الأدب وهل الالتزام تجاه الخاصّة أم العامّة (وكان رئيف خوري قد قضى لصالح العامّة)، مضى العميد في اتجاهٍ آخر تماماً. فبعد الإشادة في عباراتٍ منتقاة بأجواء الحرّية في بيروت، قال إنّ القسمة بين الخاصّة والعامّة مصطنعة، فالكاتب يكتب للغير بدون تقصيدات أو استهدافات، والتزامه يكون لحرّيته، ومع الحرّية تأتي المسؤولية التي لا تتحدّد بفئةٍ معيّنةٍ أو قضيّة معيّنة، بل بالقضايا الإنسانية الكبرى التي تختلف صِيَغ التعبير عنها، وهي مواطن الإبداع.
في الأيام الأخيرة، كنت أتكلّم مع الصديق الدكتور خليل الشيخ، فأطْلعني، إذا صحّ التعبير، على ملفّ طه حسين اللبناني، وأرسل لي مقالات وتعليقات عن زياراته للبنان وتفاعل الكُتّاب اللبنانيين مع محاضراته ومقابلاته
قرأتُ تعليق محمد دكروب على المقابلة والمحاضرتين بمجلّة الآداب بعد حوالى خمسين عاماً. وأهمية تعليقه أنّه كان بين الجمهور الحاضر للمقابلة والمحاضرتين عام 1955، وقد انزعج بعض الشيء كما قال لأنّ رئيف خوري وطه حسين هاجما انعدام الحرّية الأدبية في الاتحاد السوفيتي، وكان دكروب وقتها شيوعياً متحمّساً واستمرّ على ذلك آماداً. دكروب بحكم المعرفة والخبرة والثقافة ما لخّص المحاضرتين فقط، بل وتحدّث عن الأجواء والسياقات. حدّثنا عن التزام سهيل إدريس القومي العربي التقدّمي، وحدّثنا عن الاستعارة السارترية وما كتبه جان بول سارتر عن الالتزام في كتابه المعروف: “ما الأدب؟”.
لقد علّق آخرون على كلام طه حسين من المعاصرين ومن المتأخّرين. بيد أنّ أكثر ما أثّر فيّ من تعليقات تعليق مستفيض لمارون عبّود، وهو تعليقٌ على كلّ مداخلات طه حسين في لبنان وسورية. يأخذ مارون عبّود على طه حسين أنّه في كلّ مداخلاته خلال الخمسينيات ومطلع الستّينيات لم يأتِ بجديد، وإنّما ظلَّ يكرّر على مدى عشرين عاماً وأكثر ما سبق أن قاله في كتبٍ ومقالاتٍ قديمة، ومن ذلك امتداح الإبداع اللبناني والثناء على أبي تمّام وأبي العلاء باعتبارهما سوريَّين… إلخ. مارون عبّود بارع في السخرية، لكنّها السخرية التي لا تجرح. أمّا قوله إنّ العميد حصل على مدائح فوق ما يُعقل وما يمكن استيعابه فليس فيه إنصاف، وقد أكرمه السوريون واللبنانيون لأنّهم كانوا يبادلونه المحبّة والتقدير، وليس من النكتة في شيء أن تأخذ على العميد ثورته على لقب أمير الشعراء لأحمد شوقي، وقبوله هو نفسه للقب عميد الأدب العربي!
زيارة بوساطة سودانيّة
أواخر عام 1967 أو مطلع عام 1968 أخذنا طالب سوداني كان يتردّد على العميد لزيارته. كنّا صغاراً واعترفنا للعميد أنّنا لم نقرأ له غير كتاب “الأيام”، وكان جزؤه الثالث قد صدر بدار الآداب. سُرّ بنا العميد لأنّنا أزهريون شوام، وكان ما يزال على إعجابه ببيروت. وسألنا عن منير بعلبكي فذكرتُ له عناوين بعض ترجماته من الإنكليزية، فقال: الترجمة أيضاً يمكن أن تكون أدباً. وفتح زميلنا السوداني السيرة على إسلاميّات العقّاد وإسلاميّات طه حسين، فاعترفنا بأنّنا قرأنا العقّاد ولم نقرأه. فلم ينزعج العميد، بل قال: كلّ ما كتبته في الإسلاميات، باستثناء الفتنة الكبرى، هو أدبٌ إبداعي، وإسلاميات العقّاد مريحة لأنّه يسلّمك مفتاح فهم الشخصية في العبقريّات فتعتقد أنّك فهمت كلّ شيء. أنصحكم بقراءة “مرآة الإسلام” أو “على هامش السيرة” وستدركون الفرق، وكلّ مجتهدٍ مُصيب! وذكرنا أعماله في الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، وكيف أقبل علماء مصر وعلى رأسهم العميد على نشر كتب المعتزلة التي صوَّروا مخطوطاتها من اليمن، فظهر السرور على ملامح العميد، وعندها قال لنا: زوروني مرّة أُخرى أيّها الشوام أو اللبنانيون، كما شئتم، وسيكون لنا حديث طويل في ذلك. وظننّا أنّه يريدنا أن ننصرف، فإذا به يريد الردّ على دعوى أحدنا أنّ كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” قد جرت مخالفته في سائر كتبه الأخرى التي جرى التأكيد فيها على هويّة مصر العربية الإسلامية.
إقرأ أيضاً: العالم “الواسع”.. وعيوننا “الصغيرة”
قرأتُ “مرآة الإسلام” و”على هامش السيرة” و”حديث الأربعاء” و”أبو العلاء” و”المتنبّي” و”في الشعر الجاهلي”.. بعد خمسين سنة من نصيحة طه حسين لنا بذلك. وشعرت أنّها جديدٌ وتجديدٌ وإبداع على الرغم من نقدات مارون عبّود، وشكوى محمد دكروب وحازم صاغية!
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@