الكويت والعراق: من نفَخَ الرماد؟

مدة القراءة 7 د


مع دخول العلاقات بين الكويت والعراق “غرفة العناية الفائقة” ربطاً بالقرار الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا في العراق مطلع شهر أيلول الحالي ونصّ على عدم دستورية اتفاقية خور عبدالله لتنظيم الملاحة البحرية في الممرّ المشترك، ظنّ الجميع أنّ العلاقات الجيّدة بين حكومتَي البلدين كفيلة بحلّ الأزمة وإيجاد مخارج، على اعتبار أنّ قرار المحكمة يتعلّق بأخطاء إجرائية في تصديق مجلس النواب العراقي على الاتفاقية يُمكن استدراكها ولا تؤدّي إلى سقوط الاتفاقية. لكنّ المفاجأة – الصدمة كانت عندما نشرت المحكمة العراقية حيثيّات حكمها الواقع في 15 صفحة بتاريخ 14 أيلول الحالي، وتبيّن بعضٌ ممّا وراء الأكمة.

الرواية العثمانية
تقمّصت المحكمة دور “المؤرّخ” وأفردت مساحة واسعة من الحكم للخلفية التاريخية للكويت والبصرة، اعتباراً من عام 1546. وقد ذكرت في روايتها، استناداً إلى “المصادر التاريخية”، أنّ علاقة الكويت بالدولة العثمانية تعود إلى ذلك التاريخ عندما كانت البصرة خاضعة لاحتلال الدولة العثمانية، وأنّ الحكومة العثمانية لم تفكّر في فرض سيطرتها على شرق الجزيرة العربية حتى سنة 1869 عندما تولّى مدحت باشا ولاية بغداد، في حين أنّ بريطانيا كانت تعدّ الساحل الجنوبي للخليج منطقة نفوذ لها.
بحسب “المصادر التاريخية” نفسها، كان عام 1871 مفصليّاً، إذ أصدر فيه مدحت باشا “فرماناً سلطانياً تمّ بموجبه إعلان الكويت سنجقاً تابعاً لمتصرّفية الأحساء، وكذلك حصول شيخ الكويت من آل صباح على لقب قائمقام، وتعهّدت الكويت برفع العلم العثماني على السفن التابعة لها”.
في العام نفسه، “رفعت الحكومة العثمانية مدينة البصرة من متصرّفية إلى ولاية مستقلّة عن بغداد وأصبحت تضمّ الكويت والأحساء”.

تقول مصادر مطّلعة: “لطالما كان الجمر كامناً تحت الرماد في العلاقات بين الكويت والعراق، ولطالما سعت الحكومات المتعاقبة في البلدين منذ عام 2003 إلى فتح صفحة جديدة ومعالجة رواسب الماضي بحكمة وحنكة وعلى أساس مصالح البلدين المشتركة

العام التالي في خريطة الأحداث كان 1898، عندما “حصلت ظروف أرغمت الحكومة البريطانية على اتّخاذ إجراءات لاستبعاد النفوذ الأجنبي عن الكويت”، وفي 1899 تمّ توقيع اتفاقية بين الحكومة البريطانية والكويت “تعهّد فيها الشيخ مبارك (شيخ الكويت) هو وأبناؤه وخلفاؤه من بعده بعدم السماح لممثّل أيّة دولة أو حكومة أجنبية بالإقامة في الكويت أو سواها من الأراضي التابعة لها من دون موافقة مسبقة من الحكومة البريطانية، وألّا يبيع أو يؤجّر أو يعطي أو يتنازل بغرض الاحتلال أو أيّ غرض سواه عن أيّ جزء من أرضه لدولة أجنبية أو رعايا دولة أجنبية، من دون موافقة مسبقة من الحكومة البريطانية”.
تمضي “المصادر” بالإشارة إلى أنّ السلطات العثمانية في البصرة بذلت جهوداً متواصلة لتأكيد سيادتها على الكويت، لكنّها فشلت في ذلك، فأقامت في عام 1902 قواعد عسكرية لها في صفوان وأمّ قصر وجزيرة بوبيان، وكان هدفها السيطرة على خور عبد الله، “وعلى أثر ذلك قدّم الشيخ مبارك احتجاجاً إلى الدولة العثمانية، لكنّ الدولة العثمانية لم تهتمّ بذلك، وظلّت تلك المناطق تحت السيطرة العثمانية إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى”.
بحسب الرواية التاريخية للمحكمة العراقية، فإنّ الكويت أصبحت في عام 1914 “خاضعة للسيطرة البريطانية وقاعدة عسكرية أساسية في حرب احتلال بريطانيا للعراق، واستمرّت الكويت قائمقامية تابعة للبصرة حتى سنة 1914”.
في عام 1932، عُقدت معاهدة لوزان بين بريطانيا وتركيا الحديثة، تنازلت بمقتضاها الأخيرة عن جميع ممتلكات الدولة العثمانية السابقة في الشرق العربي، وقرّرت بريطانيا منح الاستقلال للعراق، وطلبت منه تحديد حدوده مع الكويت.
منذ ذلك العام استمرّت الخلافات جرّاء مطالبة العراق بضمّ الكويت إليه، “باعتبار أنّ العراق وريث الحكومة العثمانية وأنّ الإنكليز سلبوا الكويت بالقوّة”، وصولاً إلى عام 1958 عند تشكيل الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن، وطرح انضمام الكويت إليه، إلا أنّ ذلك توقّف على أثر إعلان ثورة 14 تموز 1958 في العراق.
شهد عام 1961، بحسب “المصادر التاريخية”، أوّل أزمة حقيقية بين العراق والكويت، إذ عادت المطالبات بالكويت كلّها بعدما كان الخلاف على مناطق محدّدة.
في 19 حزيران من ذلك العام، وقّعت بريطانيا اتفاقية جديدة مع الكويت أنهت بموجبها اتفاقية الحماية الموقّعة في 1899، فأعلنت الكويت استقلالها في اليوم نفسه.

بعد 6 أيام، أعلن عبد الكريم قاسم في بيان إذاعي أنّ الكويت جزء لا يتجزّأ من العراق، وأنّها كانت تابعة لولاية البصرة الخاضعة للحكم العثماني، فقامت بريطانيا في 1 تموز 1961، وبطلب من الكويت، بإنزال قوات عسكرية على وجه السرعة، وقام العراق من جانبه بحشد قواته بمنطقة البصرة، فوقعت بعض المناوشات.
إثر ذلك، قدّمت الكويت طلباً للانضمام إلى جامعة الدول العربية وقُبلت عضويّتها في 20 تموز 1961، فقام العراق بإيقاف جميع أوجه التعاون مع الجامعة العربية.
عندئذٍ قرّرت الجامعة العربية تشكيل قوات عربية لتحلّ محلّ القوات البريطانية في الكويت، وبالفعل تمّ ذلك، وبقيت القوات العربية في الكويت حتى عام 1963.
بعد انقلاب 8 شباط 1963 في العراق والإطاحة بعبد الكريم قاسم، “تغيّر الموقف العراقي الرسمي تجاه الكويت، إذ أعلن العراق في بيان مشترك مع وفد كويتي زار بغداد في 3 تشرين الأول 1963 اعترافه باستقلال الكويت وسيادتها”.

الرواية العراقية والغضب الكويتي
بقي الوضع بين شدّ وجذب حتى عام 1990 عندما قام نظام صدّام حسين بغزو الكويت.
في ذلك العام، انتهى “التأريخ” من قبل المحكمة الاتحادية العليا العراقية، على اعتبار، افتراضاً، أنّ الحقبة اللاحقة بين 1990 و2023 معروفة للأجيال الحالية.
أثارت هذه الرواية التاريخية غضب الكويت، التي استدعت يوم الجمعة الماضي، وهو يوم عطلة رسمية، السفير العراقي وسلّمته مذكّرة احتجاج رسمية “على ما ذكر في حيثيّات” الحكم، في إشارة إلى اعتراض الكويت على الادّعاءات الواردة فيه، وليس فقط على ما تضمنّه من عدم دستورية اتفاقية خور عبدالله.
انتقل وزير الخارجية الكويتي سالم عبدالله الجابر الصباح سريعاً إلى نيويورك، مستغلّاً فترة انعقاد الجمعية العامّة للأمم المتحدة، فالتقى في الأيام القليلة الماضية كبار المسؤولين الأميركيين والمسؤولين في الأمم المتحدة، على اعتبار أنّ الاتفاقية تمّ التصديق عليها من قبل البلدين، وإيداعها لدى الأمم المتحدة.
فجر الإثنين الماضي، عُقد اجتماع بين وزراء خارجية دول مجلس التعاون في نيويورك، خلصت نتيجته إلى دعوة العراق إلى “اتخاذ خطوات جادّة وعاجلة لمعالجة الآثار السلبية لهذه التطوّرات، التي ترتّبت على حكم المحكمة الاتحادية العليا (…) وما تضمّنه من حيثيات تاريخية غير دقيقة خارج السياق”.
أكّد الوزراء أنّ “هذه التطوّرات لا تخدم العلاقات مع دول مجلس التعاون، وتخالف المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، بما فيها قرار مجلس الأمن 833”.

إقرأ أيضاً: العراق والكويت: الطبل في “خور عبدالله” والعرس في “الدرّة”

هكذا تحوّلت الأزمة من كويتية – عراقية إلى خليجية – عراقية، وسط تساؤلات عن الجهة التي تقف وراء افتعال أزمة لا مبرّر لها، خاصة أنّ العلاقات بين الكويت والعراق كانت تنحو باتجاه الإيجابية، وآخِرة الخطوات كانت زيارة وزير الخارجية الكويتي لبغداد في نهاية تموز الماضي.
تقول مصادر مطّلعة: “لطالما كان الجمر كامناً تحت الرماد في العلاقات بين الكويت والعراق، ولطالما سعت الحكومات المتعاقبة في البلدين منذ عام 2003 إلى فتح صفحة جديدة ومعالجة رواسب الماضي بحكمة وحنكة وعلى أساس مصالح البلدين المشتركة، لكنّ جهةً ما قرّرت الآن نفخ الرماد من فوق الجمر”.
تضيف المصادر: “إذا أردنا أن نعرف من هي تلك الجهة، فعلينا العودة سنة إلى الوراء، واستذكار تظاهرات التيار الصدري أمام المجلس الأعلى للقضاء العراقي، على خلفيّة الاتّهامات بتسييس القضاء وتدخّل جهات إيرانية نافذة في عمله”.

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…