سافر الملازم معمّر القذّافي للدراسة في بريطانيا. درس القذّافي في ساند هيرست 42 أسبوعاً، وعاد ليحكم ليبيا 42 سنة.
ما تزال فترة دراسة الضابط الليبي الشابّ في أكاديمية ساند هيرست العسكرية بمنزلة الصندوق الأسود، فلا أحد يعلم ماذا تعلّم؟ ولا بمن التقى؟ ولا بماذا اقتنع؟
عاد القذافي إلى ليبيا ليقود انقلاباً عسكريّاً، ويقوم بحلّ الجيش والشرطة، ثمّ بحلّ الدولة. وبعد عشرات السنين العجاف.. ثارت الجماهير على الجماهيرية، فقام الناتو بتخريب الثورة، وتدمير الدولة، والمساعدة في أن تحلّ جمهورية الفوضى محلّ جماهيرية العبث، وسرعان ما بدأت سطور لم تنتهِ من الدم، فأُسّس الكتاب الأسود على أنقاض الكتاب الأخضر.
في أيلول 2023 كانت الكارثة قد وقعت بالفعل، ذلك أنّ سدود مدينة درنة التي بناها مهندسون من يوغوسلافيا لم يتمّ ترميمها ولا صيانتها منذ عام 2002، قبل نحو عشر سنوات من سقوط القذّافي
قنبلة نوويّة في السوبرماركت
يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه “المقالات اليابانية” أنّ القذّافي أرسل نائبه عبد السلام جلود في زيارة خارجية لأجل التسلّح النووي. قال جلّود لهيكل: “أنا مكلّف من العقيد بشراء قنبلة ذرّية والعودة بها إلى ليبيا، وسندفع ثمن القنبلة مهما بلغ”. وكان ردّ هيكل ساخراً: “إنّ القنابل النووية لا تُباع في السوبرماركت”!
انشغل القذّافي في السنوات اللاحقة بإنشاء جماهيريّته العظمى، وتأسيس نظريّته العالمية الثالثة، لكنّه، بعد سنوات، عاد ليبحث إنشاء برنامج نوويّ ليبي، وإنتاج قنبلة ليبية لتحقيق الردع النووي. وحسب حديث تلفزيوني أجرته قناة “روسيا اليوم” قبل أسابيع، قال علي الحديثي سفير العراق في ليبيا في عهد القذّافي، إنّ “البرنامج النووي الليبي كان أكثر تقدّماً من البرنامج العراقي، ومع ذلك فقد تركوا البرنامج الليبي وضربوا العراقي”.
هنا.. أتذكّر حديثاً دار في فيينا عام 2010 بيني وبين الدكتور محمد البرادعي، الحائز جائزة نوبل للسلام، وكان وقتها المدير العامّ للوكالة الدولية للطاقة الذرّية. كان بعض الحديث في مكتبه بالطابق الأخير في الوكالة، وبعضه الآخر في منزله بالطابق الرابع قرب نهر الدانوب.
قال لي الدكتور محمد البرادعي: “كان القذّافي أشبه بالمصيدة التي نجح الغرب من خلالها في الإيقاع بشبكة عبد القدير خان النووية، والإمساك بالكثير من خيوط السوق السوداء النووية”. ولاحقاً قام القذّافي بتسليم كلّ ما لديه من معلومات إلى الولايات المتحدة، وكانت كلّها معلومات ثمينة جدّاً سهّلت اصطياد الكثيرين.
سدود درنة
أنفق القذافي أرقاماً خيالية على حرب تشاد، ودعم الهنود الحمر، وموَّل حركات وتنظيمات حول العالم، لكنّه نسي أن يقوم ببناء مدن عصرية، أو تطوير طرابلس وبنغازي، أو تأسيس تعليم جيّد وصحّة جيّدة.
في حين انشغل ببناء مفاعلات نووية، لم يقُم ببناء سدود جديدة، أو ترميم سدود قديمة، على الرغم من نداءات جامعة عمر المختار، واستغاثات خبراء المياه الليبيين بأنّ الطوفان مقبل، والغرق مقبل.
من أربعة عقود من الكوميديا السوداء ضربت البلاد بعد ثورة الفاتح، إلى عشر سنوات من النهب والقتل، جاءت بعد الثورة على الثورة
في أيلول 2023 كانت الكارثة قد وقعت بالفعل، ذلك أنّ سدود مدينة درنة التي بناها مهندسون من يوغوسلافيا لم يتمّ ترميمها ولا صيانتها منذ عام 2002، قبل نحو عشر سنوات من سقوط القذّافي.
وأمّا مدينة سوسة التي تقع على بعد 80 كيلومتراً من مدينة درنة، والتي ضربها إعصار دانيال المروّع، فلم يقُم القذافي ببناء أيّ سدّ فيها. وأمّا الذين جاؤوا من بعده فلم يضعوا لبنة واحدة في طول البلاد وعرضها، بل كانوا نموذجاً لمقاولي الهدم لا مقاولي البناء.
ما كان لإعصار البحر المتوسط أن يكون مدمّراً إلى هذا الحدّ، وكان يمكن لعدد القتلى ألّا يتجاوز الآحاد أو العشرات، لكنّ انهيار السّدّين جعل جبلاً من المياه يزيد ارتفاعه على ارتفاع طابقين يكتسح في طريقه البشر والحجر، ولا يتركهم إلّا جثامين طافية على سطح البحر. لقد كانت الكارثة في انهيار السّدّين لا في وصول الإعصار.
البحر الأسود الليبيّ
واجهت سدود درنة البائسة إعصاراً غير مسبوق، وحسب عالِم المحيطات الروسي سيرغي محمدوف فإنّه يعادل 220 قنبلة بحجم هيروشيما، من حيث الطاقة الناجمة عنه، ذلك أنّ عاصفة استوائية متوسّطة الشدّة هي أكثر قدرة بـ200 مرّة ممّا تنتجه كلّ المحطّات الكهربائية في العالم مجتمعة.
روى أحد الليبيين الناجين لتلفزيون BBC: “عند الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل سمعت نباح الكلاب. نزلت إلى الأسفل متثائباً، فوجدتُ المياه تغمر قدميّ. ذهبت للفناء الخلفي، فوجدته يمتلئ بالمياه وفوقه تطفو الجثث. إنّه مشهد أسوأ من الموت نفسه. وبعد ذلك تناثرت الجثث التي دفعتها المياه داخل منزلنا. صعدت للطابق السابع، وكان أقاربي يقفون فوق الطابق الثالث، ويلوّحون بمصابيح الهواتف المحمولة. وفي ثوانٍ انهار بهم المبنى، واكتسحتهم المياه باتجاه البحر”.
هذه واحدة من قصص مرعبة تبدو وكأنّها خيالية من فرط مأساويّتها. لقد أصبح شاطئ البحر المتوسط أمام درنة داكناً ومخيفاً. أصبح البحر الأسود لوناً وخوفاً، وبينما لانَت موجاته بعد قليل ودفعت ببعض الجثامين إلى الشاطئ، لم تلِن موجات أخرى، إذ قذفت جثامين عشرات الشهداء إلى أبعد من 50 كلم!
قال لي الأستاذ محمد السلاك الناطق باسم رئيس المجلس الرئاسي الليبي الأسبق: “لقد ابتلع البحر الجغرافيا، وأصبحنا إزاء أطلانطس جديدة”.
تحتاج ليبيا إلى بناء “درنة جديدة” عصرية على أسس من الأمن والسلامة لمواجهة تغيّرات المناخ المفزعة، لكنّ الأهمّ هو التوافق الوطني على بناء ليبيا جديدة، ليبيا ما بعد القذّافي، أو بالأحرى “ما بعد بعد القذّافي”
فشل الشرق والغرب
من حقّ الليبيين أن يغضبوا على الجميع، الذين يحكمون في الشرق والذين يحكمون في الغرب. من حقّهم الغضب من الماضي والحاضر، من القذّافي وعصره، ومن الثورة وزمانها.
من أربعة عقود من الكوميديا السوداء ضربت البلاد بعد ثورة الفاتح، إلى عشر سنوات من النهب والقتل، جاءت بعد الثورة على الثورة.
لا خير في الثورتين. عاش الليبيون عقوداً عصيبة، ظلمات بعضها فوق بعض. فالبلد الثريّ الممتلئ بالنفط بدا وكأنّه بلد يعيش في العصور الوسطى. لم يجد دولاراً واحداً لصيانة سدوده وحماية شعبه، لكنّه رأى المليارات تتسلّل إلى جيوب الساسة والميليشيات، وفي حسابات المرتزقة واللصوص.
لنتساند حتى لا نغرق
تمثّل الأزمة الليبية الأصعب والأسهل معاً. فالانقسام الشرقي الغربي، والغضب الجنوبي، واستمرار نفوذ الأجانب سياسياً وعسكرياً، وسطوة المرتزقة وسيطرة التنظيمات الإرهابية هي كلّها معالم أزمة معقّدة، لكنّ اتّساع المساحة وطول الساحل، وثراء المال والتاريخ، وتميّز النخبة الليبية غير المسيّسة هي كلّها معالم أزمة سهلة.
تحتاج ليبيا إلى بناء “درنة جديدة” عصرية على أسس من الأمن والسلامة لمواجهة تغيّرات المناخ المفزعة، لكنّ الأهمّ هو التوافق الوطني على بناء ليبيا جديدة، ليبيا ما بعد القذّافي، أو بالأحرى “ما بعد بعد القذّافي”.
إقرأ أيضاً: حميدتي مات.. ولكنّه قد يعود للحياة مرّة أخرى
قبل سنوات شارك الشاعر الليبي الشابّ مصطفى الطرابلسي في ندوة انعقدت بقصر ثقافة درنة، وجرى استذكار التاريخ الشاقّ للمدينة، من سنوات الجماعة المقاتلة، ثمّ “القاعدة”، ثمّ “داعش”، ثمّ “القاعدة” من جديد، ثمّ جرى نقاشٌ بشأن خطر فيزيائي جسيم يتأتّى من الانهيار المحتمل لسدود المدينة.
بعد أيام انهدمت السدود، وغرق الشاعر الشهيد في الإعصار، لكنّه كان قد ترك لنا قصيدته الموجعة: “الموتُ يفضح الشوارع الرّطبة/ والمقاول الغشّاش/ والدولة الفاشلة/ يغسلُ كلّ شيء/ أجنحة العصافير/ ووبر القطط/ يذكّر الفقير/ بسقفِه النخيل/ وردائه الهزيل”.
دعا الشاعر الراحل في قصيدته إلى أن يمسك الليبيون بعضهم بأيدي بعض، أن يتّكئوا على أنفسهم، فلا شيء غير التآخي والتآزر يمكنه إنقاذ البلاد.
إنّ وصيّة الشاعر تبدو لي كخريطة طريق كاملة. لقد أوجزها بقوله: “لنتساند حتى لا نغرق”.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كلّيّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.