قوانين “مواجهة” الذكاء الصناعيّ (3/3): الخليج… و”ثقافة العرب”

مدة القراءة 4 د


الدول العربية، وخاصة دول الخليج، بدأت فعلياً الاستثمار في تقنيات الذكاء الصناعي من خلال مبادرات مشجّعة وجيّدة اقتصادياً. لكن لا اقتصاد فعّالاً من دون الالتفات إلى احترام الثقافة والقيم الثقافية. فمن المهمّ الاستثمار الفكري أيضاً.
لذلك فإنّه على الدول العربية أن تبني تشريعاتها التي تحافظ على خصوصية الثقافة العربية. فالعديد من البرمجيّات لا تتناسب مع ثقافتنا، وبالأخصّ في ما يتعلّق بالقيم والأخلاق والديانات. العديد من هذه التطبيقات يؤثّر على الأطفال ويغيّر سلوكيّاتهم، والعديد من الألعاب يشجّع على تبنّي أفكار لم تعد تميّز العلاقات بين الجنسين، وهو ما يشكّل خطراً على بنية الهيكل الاجتماعي الأسريّ إذا لم ننتبه لذلك، وإذا لم نبنِ الإنسان المحترس تقنيّاً الذي يعرف ما يفعل بالتقنيّات وما تفعل به التقنيّات. وهذا يتطلّب إرساء ثقافة التقنيات في التعليم والتعلّم وفي كتب التنشئة الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب توطين التقنيّات بما يتناسب مع اللغة العربية وممارستها ورقمنتها وحوسبتها، وإلّا ضاعت الهويّة وضاعت معها المكتسبات الاقتصادية التي لن تعود لها أيّ فائدة تذكر ولا أيّ قيمة معنوية.
تبقى مسألة التشريعات معلّقة. لن يكون نصّ القوانين صعباً، لكنّ الأهمّ هو تطبيق هذه القوانين، لتجنّب وقوع كارثة، فإذا كان التخوّف من أنّ الذكاء الصناعي “سيقضي على البشرية”، كما يعتبر البعض، وهذا ما أعتبره مستبعداً، فالأهمّ هو الحفاظ على إنسانيّة الإنسان كي لا يصبح هو الآلة. لن يأتي الخوف من الروبوتات، بل من الإنسان الذي برمجها. فإذا كان مستعدّاً للفناء فسيبني تقنيّات تساعده في ذلك، لكن عليه الاستعداد أوّلاً.

الدول العربية، وخاصة دول الخليج، بدأت فعلياً الاستثمار في تقنيات الذكاء الصناعي من خلال مبادرات مشجّعة وجيّدة اقتصادياً

ما هي الأسئلة المطروحة اليوم؟
الأسئلة حول التشريع عديدة ومتشعّبة كما الآراء، وهي على الشكل التالي:
أوّلاً، التطبيقات الرقمية لا حدود لها، فهي في “اللاحدود”. وسيكون من الصعب التحكّم بها وتنظيمها على مستوى الدولة. إذ لا يمكن لنماذج الذكاء الصناعي التوليدي التي ترتبط باللغات أن تكون محصورةً في حيّز فضائي رقمي مُقيّد.
ثانياً، هل ما ينطبق على بلدٍ معيّن ينطبق على بلدانٍ أخرى؟ هل من الممكن أن نجد قانوناً عامّاً دولياً تتبعه الدول كافّةً؟ أم كلّ دولة ستفتّش عن التشريعات التي تناسبها وتلتزم بها حسب رؤيتها الداخلية ومصالحها الوطنية؟
ثالثاً، هل يكون على الدول اقتراح وكالة رقابة دولية يمكنها الإشراف على التطوير العالمي للذكاء الصناعي؟
رابعاً، في نهاية المطاف، هل يكون على الصين والولايات المتحدة إيجاد أرضية مشتركة في حوكمة الذكاء الصناعي على مبدأ أنّ التعاون أمرٌ لا بدّ منه لتنظيم التكنولوجيا القويّة؟
في ظلّ ما يشهده العالم من توتّرٍ بين بكين وواشنطن، كيف يمكن لهما الاتفاق على تنظيم هذه الظاهرة؟ وإذا كانت الولايات المتحدة قد بدأت الآن بالبحث عن تشريعات، فإنّ الصين تعمل على ذلك منذ عدّة سنوات لتنظيم الذكاء الصناعي. يبقى أنّ النهج من أعلى إلى أسفل في التنظيم، كما فعلت الصين والدول الأوروبية، يتضمّن إيجابيات لأنّ اتّخاذ القرارات سيكون أسرع. أمّا النهج الأميركي فمطّاط.
هل توقّع الدول على قانون عامّ لتأطير الذكاء الصناعي؟
لا يمكن الجزم في هذا الشأن قريباً. الصين مثلاً لن تقبل بالشروط الأميركية، والولايات المتحدة لن تقبل بالشروط الصينية. فالسياسة الصينية وتطبيقها يختلفان عمّا هما عليه لدى باقي الدول. وهل تطبّق هذه القوانين دولة كإسرائيل الرائدة في مجال بناء برمجيّات التجسّس والمراقبة؟ أم تتبع النهج العنصريّ نفسه؟ وإذا كان بالإمكان فرض غرامات على المؤسّسات فمن سيحاسب الدول؟

إقرأ أيضاً: قوانين “مواجهة” الذكاء الصناعيّ (2/3): رِجلٌ على الوقود.. والمكابح

تجدر الإشارة إلى أنّ بعض المؤسّسات لن تلتزم على الرغم من علمها أنّها تتعدّى على التشريعات، لكنّها تحسب أنّ قيمة الإعلانات والأرباح من منشورات معيّنة ومن بيع البيانات تتخطّى بكثير قيمة المخالفة.
من المحتمل اعتبار أنّ القرارات التنظيمية لدى القوّتين المتصارعتين والأقوى في المجال ستشكّل النظام العالمي الجديد للذكاء الصناعي. والدولة الأكثر تطوّراً وتفوّقاً ستفرض رؤيتها الحاسمة التي ستحدّد من هو الفائز في سباق الذكاء الصناعي.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…