صار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان واحداً من أكبر لاعبي السياسة الدولية المعاصرين.
للمرّة الأولى يمكن القول عن الرجل أنّه استوعب الخلاصة العميقة للعواصف الشديدة التي مرّ بها منذ توليه الشان العام قبل العشرات من السنوات.
تتلخّص مهارة الرجل في قدرته على فعل ثلاثة أشياء متناقضة شديدة التعقيد:
1- قدرته على فعل الشيء ونقيضه: إشعال الحرب ثمّ الدعوة إلى السلام، الهجوم ثمّ الانسحاب، الدعم ثمّ المنع، التقدّم ثمّ التراجع، الهزيمة ثمّ الانتصار.
2- قدرته على استغلال الأزمات المحليّة والإقليمية أو الدولية وتحويلها إلى فرص لتحقيق المكاسب.
3- قدرته على الالتفاف الكامل والتراجع عن أيّ موقف شريطة أن يحصل في النهاية على الثمن المناسب محقّقاً الأهداف المنشودة.
يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تربطه حركة مصالح عظمى مع إردوغان: “حينما تلتقي مع إردوغان لا تشعر بأنّك تقابل زعيم دولة بل تشعر بأنّك تقابل زعيماً لكوكب آخر”
تاريخ إردوغان الشخصي خير دليل على ذلك، فنشأته استندت إلى أربعة مؤثّرات:
1- عائلة شديدة الفقر.
2- دراسة القرآن والفقه في مدارس إمام خطيب.
3 – ممارسة كرة القدم في نادي “قاسم باشا”.
4- قيامه لمدّة 4 سنوات بالانشغال في بيع الخضراوات والفاكهة، وخاصة البطيخ، في شوارع إسطنبول للإنفاق على تعليمه.
5- دراسة الاقتصاد في جامعة مرمرة والتأثّر بشخص نجم الدين أربكان وبقراءاته الإسلامية ونهمه في الاطّلاع على الشعر الديني التحريضي شكّلت كثيراً من مواقفه.
من المؤكّد أنّه لا يمكن اتّهامي بالانحياز لإردوغان، فلديّ تاريخ حافل من الانتقادات لسياسته، لكنّ الموضوعية تفرض عليك التقدير المناسب للأحداث والأفعال حتى لو كان ذلك يتعلّق بأكبر خصومك.
يقول سفير خليجي خدم في العاصمة التركيّة أنقرة وكانت تربطه بإردوغان علاقة شخصية قويّة: “هذا الرجل قادر على أن يكون مبدئياً متشدّداً حينما يريد، ويمكن بعد دقائق أن ينقلب على هذا الموقف ويصبح براغماتيّاً انتهازياً إذا كان ذلك يخدم مصالحه.”
في ملخّص سريع لسياسة “المبدئية البراغماتية” للرجل يمكن رصد ما يلي:
1- تخلّى عن السياسة الإسلامية المتشدّدة وأنشأ حزب العدالة والتنمية المحافظ المعتدل عام 2001.
2- بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 فتح إردوغان البلاد للاستثمارات الأجنبية.
3- انقلب على فتح الله غولن وجماعته للانفراد بالسيطرة السياسية.
4- انقلب على شركائه في بناء حزب العدالة والتنمية: عبد الله غول وأحمد داوود أوغلو مهندس السياسة الخارجية.
5- انقلب على سياسة أوغلو “تصفير المشاكل”، وفتح بوّابات جهنّم في العراق وسوريا، واختلف مع هولندا وفرنسا والسويد والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا.
6- اشترى نظام صواريخ “إس 400” الروسي فيما تقدّم بطلب للحصول على طائرات “إف 16″ المعدّلة و”إف 35” الأميركية المتطوّرة جدّاً.
7- بدأ من جديد السعي إلى تصفير المشاكل التي خلقها بنفسه مع السعودية والإمارات ومصر وسوريا!
8- انقلب من حالة التحرّش العسكري البحريّ بدول شرق المتوسّط في إطار سعيه الدؤوب إلى الحصول على حصّته من غاز المنطقة إلى التقدّم سرّاً بطلب المشاركة في منتدى غاز المتوسط المؤسَّس في مصر.
9- آخر أوراق إردوغان مهارة وعبقرية هي مقايضته موافقة بلاده على انضمام السويد إلى الناتو بتأكيد الاتحاد الأوروبي أنّه سيوافق على طلب انضمام بلاده إلى الاتحاد.
الرجل “سوبر لعّيب” في زمن معقّد متقلّب قائم على الانتهازية القاتلة، إنّه الرجل المناسب للزمن المناسب مع هذا النوع من الزعامات الدولية!
لعبها في اللحظة الأخيرة. ففي آخر تصريح له قبل أن يستقلّ الطائرة من بلاده إلى اجتماع قمّة الحلف الأطلسي في ليتوانيا رفض عضوية السويد. وفور وصوله إلى عاصمة ليتوانيا، التقى سكرتير الحلف الأطلسي وسكرتير الاتحاد الأوروبي ثمّ خرج بصحبة رئيس وزراء السويد كي يعلن موافقة بلاده على عضوية السويد!
من باب شدّة المهارة في اللعبة أعلن إردوغان أنّ الأمر معلّق بموافقة البرلمان التركي الذي يملك فيه أغلبية مريحة جدّاً والذي سينعقد بعد 70 يوماً!
بالطبع كان من الحكمة الدعوة إلى جلسة طارئة، لكنّه أراد أن يبتزّ “الغرب” كي يكشف في فترة الـ70 يوماً مدى استجابتهم عملياً للوعود التي قطعوها له.
زعماء العالم الذين تعاملوا مع الرجل لا يخفون إعجابهم بمهاراته وقدرته التي لا مثيل لها في الضغط بكلّ الوسائل لتحقيق ما يريد.
يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تربطه حركة مصالح عظمى مع إردوغان في ملفّات سوريا والسلاح والغاز والمرور من البوسفور والوساطة في ملفّ بيع الحبوب أخيراً: “حينما تلتقي مع إردوغان لا تشعر بأنّك تقابل زعيم دولة بل تشعر بأنّك تقابل زعيم كوكب آخر”.
قال عنه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب: “نبّهني مساعدي في البيت الأبيض إلى أنّ إردوغان حاسم لا يلين ولا يقبل أن يعامَل بدونيّة سياسياً أو بروتوكولياً”.
أمّا أنجيلا ميركل التي فاوضت إردوغان في ملفّات معقّدة وشائكة فكانت تصفه: “يمتلك إردوغان هيبة لم أرَها عند أيّ من زعماء العالم”، ووصف آخرون إردوغان بعدّة مصطلحات عربية فقالت إنّه “بالشامي بندوق” و”بالمصري صايع” و”بالمغربي معلّم”.
إقرأ أيضاً: إردوغان – السيسي: “نبتدي منين الحكايه؟”
باختصار الرجل “سوبر لعّيب” في زمن معقّد متقلّب قائم على الانتهازية القاتلة.
إنّه الوصف المناسب للزمن المناسب مع هذا النوع من الزعامات الدولية!
وكأنّ أغنية المطرب المغربي سعد المجرّد “إنت معلّم ومنّك نتعلّم” كُتبت ولُحّنت وصُنعت خصيصاً له!