يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض منتشياً بعد أربع سنوات من مغادرته له، مستنفراً ومستفزّاً وغير راضٍ بعد انتخابات سابقة خسرها ووصفها بأنّها مزوّرة. لا الاتّهامات الدنيئة التي تلاحقه، ولا سجلّه العابق بالفساد، ولا تجريحه البغيض بحقّ شرائح عدّة في المجتمع الأميركي، ولا سلوكه غير السويّ، نالت من شعبيّته الواسعة بين فئات كثيرة. كلّما واجه مشكلات قانونية وجنائية ازداد جمهوره والمؤيّدون، وكلّما شوّه الإعلام سمعته وصيته التفّ أنصاره حوله وازداد المعجبون به.
تغلّب ترامب على كلّ التحدّيات التي واجهته. قفز فوق كلّ الحواجز العالية. كسر كلّ العصيّ التي وُضعت في دواليبه. حقّق فوزاً صعباً واستثنائياً. تفوّق على منافسته الديمقراطية في المجمع الانتخابي وبفارق ملايين الأصوات في التصويت الشعبي. أشبع نرجسيّته بحصول حزبه على غالبية مقاعد الكونغرس بمجلسَيه (الشيوخ والنواب). بات بمقدوره السيطرة على السلطتين التنفيذية والاشتراعية، بعدما استكمل سيطرته على السلطة القضائية العليا ممثّلة بالمحكمة العليا التي يغلب على قضاتها اللون الجمهوري الأحمر. صار “سيّد السلطات” في أميركا، وبات يمكن إطلاق عبارة “أميركا ترامب” على الولايات المتحدة. ولا شكّ أنّه بدأ يحلم بأن يتلازم اسمه مع صفة “قائدنا إلى الأبد”، وربّما بجعل أميركا مملكة مطلقة يتوارث حكمها من بعده سلالته من آل ترامب.
تغلّب ترامب على كلّ التحدّيات التي واجهته. قفز فوق كلّ الحواجز العالية. كسر كلّ العصيّ التي وُضعت في دواليبه
دكتاتور ليوم واحد
وعد ترامب ناخبيه أن لا يحكم كدكتاتور”إلا في اليوم الأوّل” لتولّيه السلطة، في معرض تأكيده نيّته إحداث تغييرات كبرى في مجالات الهجرة والطاقة والسياسة الخارجية. لكنّ من يضمن مع شخصيّة مغرورة ومزاجية تنام على شيء وتصحو على شيء آخر، ألّا يستسيغ أسلوب الدكتاتوريين والمستبدّين في الأيام التالية ليومه الأوّل في البيت الأبيض، وأن يتصرّف كإمبراطور وحاكم مطلق لأميركا ضارباً عرض الحائط بدولة القانون وعمل المؤسّسات وأصول العلاقات الدولية واحترام المواثيق والشرائع والقرارات الأممية، بعدما أظهر في فترة حكمه السابقة ميولاً استبدادية واستهتاراً منقطع النظير بالنظم والدساتير والتشريعات ورغبة في تجاوز الأحكام والضوابط والأعراف. ومن يضمن ألّا يلجأ إلى البطش والثأر من أصدقائه القدامى الذين انقلبوا عليه قبل أن ينتقم من الخصوم؟ كيف يمكن لجم رجل كهذا، بعد فوزه الساحق في انتخابات مصيرية وحاسمة وبات يتحكّم بمفاتيح البيت الأبيض والسلطات الثلاث، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعليّ للقوّات المسلّحة؟
وسائل الإعلام ومراكز البحث والدراسات حافلة بالتقارير التي تستشرف السياسات الخارجية المتوقّعة من ترامب الثاني في شأن القضية الفلسطينية والسير بصفقة القرن، ومواقفه من حروب لبنان وغزة وأوكرانيا، والاتفاق النووي مع إيران والصراع التجاري مع الصين والعلاقات المتوتّرة مع الضفّة الأوروبية للأطلسي، لكنّ ما يتعيّن مراقبته فعلاً ما هو آتٍ على صعيد الداخل الأميركي، مع انحسار اليمين الجمهوري التقليدي لمصلحة التيار اليميني المتشدّد والعنصري والانعزالي والشعبوي والفاشي. أميركا تتغيّر وتولد ظواهر غير اعتيادية. من هنا بالذات ستنطلق الرؤية الأميركية الجديدة نحو العالم الخارجي، وعلى هذا الأساس يتعيّن التكهّن أو انتظار كيف ستصاغ السياسات الخارجية، وبأيّ منظار سينظر إلى شعوب الأرض خارج الجغرافيا الأميركية.
وعد ترامب ناخبيه أن لا يحكم كدكتاتور”إلا في اليوم الأوّل” لتولّيه السلطة
في الوقت الذي كانت صناديق الاقتراع تغلق في الولايات المتحدة إيذاناً بعهد أميركي جديد، تنزلق فيه الدولة الديمقراطية العظمى نحو سلطة الرجل الواحد، والحزب الشمولي الواحد، والحاكم المطلق، كان بنيامين نتنياهو في إسرائيل يوجّه الضربة القاضية لكذبة الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ناقلاً أيضاً الدولة العبرية للمرّة الأولى إلى حكم الرجل الواحد والنظام الشمولي.
كما في واشنطن كذلك في تل أبيب
لم تكن إطاحة يوآف غالانت من وزارة الدفاع فقط إقالة لرجل الرئيس جو بايدن في الحكومة الإسرائيلية، بل كانت الخطوة الأخيرة في إخراج آخر الأصوات المعارضة داخل الحكومة، تمهيداً أيضاً لحكم الرجل الواحد. بضربة حجر واحدة حقّق نتنياهو إصابات عدّة: أخرج العسكري الخبير من وزارة الدفاع وأحلّ مكانه سياسيّاً من التابعين المخلصين الذين لا يفقهون بالعلم العسكري، ليكون هو نفسه القائد السياسي والعسكري المطلق للحكومة والدولة، وأرضى الأحزاب الدينية بطرد خصمها الرافض لقانون إعفاء المجنّدين الحريديم وضمِن ولاءها مقابل تغاضيها عن سياساته العامّة، وفعل الأمر نفسه مع المتشدّدين القوميين بأن أطلق يدهم الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس مقابل شراء سكوتهم وصمتهم. ولم يبقَ خارج سلطته سوى المحاكم والقضاء، اللذين كان يعدّ العدّة لتطويعهما قبل “طوفان الأقصى”، قبل أن يتوّج نفسه “ملكاً” على إسرائيل وزعيماً أبديّاً للكيان ويجعل اسمه “إسرائيل نتنياهو”.
النزعة التسلّطيّة لدى نتنياهو لا لبس فيها. تصفه وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة بأنّه “يريد الاستمرار والبقاء في الحكم، لديه، هو وزوجته، شهوة السلطة والقوّة. إنّهما كالدكتاتوريين والطغاة”.
ما يجمع ترامب ونتنياهو
بين نتنياهو وترامب قواسم مشتركة كثيرة:
1- الأفكار الانعزالية القومية.
2- كره الأجانب.
3- الإعجاب بالأثرياء.
4- احتقار المؤسّسات والقواعد والقوانين.
5- الضوابط لغيرهما وليست لهما.
6- يريدان سلطة بلا كوابح وقيود.
7- نجح الرجلان في تحويل حزبَيهما السياسيَّين من مؤسّسات منتظمة إلى دكاكين خاصّة تسوّق شخصَيهما وتأتمر بأوامرهما وتعمل لخدمة مصالحهما الشخصية.
النزعة التسلّطيّة لدى نتنياهو لا لبس فيها. تصفه وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة بأنّه “يريد الاستمرار والبقاء في الحكم
راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي باكراً على المرشّح الجمهوري، وكان أوّل من هنّأه على فوزه في محاولة لتصحيح غلطته في الانتخابات السابقة عندما اعترف بفوز جو بايدن، وهو ما أثار غضب ترامب. ويأمل أن تتفوّق المصالح العليا لكلا الطرفين والأيديولوجية على العلاقات الشخصية، لا سيما أنّهما يقفان في الجانب نفسه في القضايا الكبرى: تصفية القضية الفلسطينية، طيّ الصفحة النووية لإيران، إحكام السيطرة على الشرق الأوسط واستغلال موارده وثرواته تحت شعارات برّاقة وكاذبة مثل السلام والتنمية الاقتصادية.
وصفت الكاتبة الإسرائيلية ميراف باتيتو، في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، نتنياهو وترامب بـ”المفترسَين الفائقَين” اللذين يتقنان فنّ تدمير المؤسّسات الديمقراطية وتعزيز الانقسامات في مجتمعاتهما، وربطت بين أساليبهما في استغلال السلطة وإثارة النزاعات لتعزيز سيطرتهما، وقالت إنّ لدى نتنياهو وترامب أسلوباً مشتركاً في مواجهة خصومهما السياسيين، فهما لا يتورّعان عن استخدام أيّ وسيلة لتحقيق النصر، حتى وإن كانت على حساب الديمقراطية. وخلصت إلى أنّ “الأشرار قد فازوا بهذه اللعبة”.
الشخصيات الاستبدادية، بأعراضها المرضيّة، ليست حكراً على الأنظمة الشمولية والتوتاليتارية، ذلك أنّ كبرى ديمقراطيات العالم حبلى بالسياسيين المصابين بالأمراض الاستبدادية للأنظمة غير الديمقراطية، ولو تيسّر لبعض قادة الغرب أن يحكموا دولاً إفريقية أو آسيوية أو لاتينية، لنافسوا عيدي أمين وبوكاسا وبول بوت في ابتداع عجائب التعذيب وقهر شعوبهم.
العالم ليس بخير، مع وصول ترامب إلى سدّة الزعامة المطلقة في الولايات المتحدة، واستئثار نتنياهو بالسلطة في إسرائيل
ما أعاق هؤلاء عن تنفيذ نزواتهم الشيطانية هي قدرة القواعد الديمقراطية الراسخة منذ زمن بعيد على امتصاص الصدمات، وقوّة القوانين في منع الخروج عن السيطرة، لكن عندما أتيح لطاغية مثل نتنياهو، لم يتردّد لحظة في ارتكاب أبشع المجازر في حقّ الفلسطينيين واللبنانيين، فرصة للتفلّت من القواعد والقوانين، وهو ما يسعى إليه دائماً وحقّق الكثير منه، فإنّه سيتعامل مع معارضيه في الداخل على غرار نخبة المستبدّين في العالم الثالث. ويصير الأمر أصعب مع وجود راعٍ أميركي في البيت الأبيض لديه النزعات والميول نفسها.
إقرأ أيضاً: بازار أميركيّ إسرائيليّ لبيع الأوهام
العالم ليس بخير، مع وصول ترامب إلى سدّة الزعامة المطلقة في الولايات المتحدة، واستئثار نتنياهو بالسلطة في إسرائيل، وتفشّي التوتاليتاريّات والثيوقراطيّات في بلدان الشرق الأوسط وازدهار الفاشية على مدى الأمم الأوروبية.