توجّهت إلى منزل الوالدة أطال الله عمرها هرباً من ضغط العمل والتواصل مع الأصدقاء وأسئلتهم المُحرجة عن آخر الأخبار، حتّى بتّ أخال نفسي جهاز تلفاز متنقّلاً يلجأ إليه المعارف والأحباب لمعرفة أبرز التطوّرات.
قرعت الجرس، وكالعادة صوت الوالدة يسبق فتح الباب. إنّها رائحة زكية تسلّلت إلى أنفي، دائماً رائحة منزل الأهل ترتبط برائحة الطعام. وما إن جلست على الكرسي عند مدخل الدار حتى عاجلتني الوالدة بسؤال: “شو الأخبار؟”. لكنّ أنا الهارب من أسئلة مماثلة تنهمر عليّ كانهمار الأمطار لم أعِر سؤالها اهتماماً. سألتها ماذا تطبخين؟ هي أيضاً لم تعِر سؤالي اهتماماً، طارحة سؤالاً ملحقاً بالأول: بعد كلّ ما يحصل هل انتهت الحروب والمخاطر؟ وهل يكون كلّ شيء على ما يرام؟، لم أجبها معاوداً سؤالها: “هل هذه رائحة المقلوبة؟”، ابتسمت قائلة: “أعرف أنّك تحبّها، فأعددتها بعدما قلت لي صباحاً إنّك قادم وقت الغداء؟”. هذا خير الكلام أمّاه دعينا نتحدّث عن المقلوبة وتاريخها في بلاد الشام. انسحبت الوالدة لتحضير طاولة الطعام، وبانتظارها استعنت بالعمّ “غوغل” للوقوف على تاريخ المقلوبة وأثرها عند الخواصّ والعوامّ، فكانت النتيجة أنّ طبق مقلوبة اللحمة والباذنجان واحد من أشهر المأكولات الشعبية في دول بلاد الشام، ولا سيّما فلسطين وسوريا ومعهما لبنان، مع اختلاف بسيط في طريقة إعدادها، لكنّها تحتوي بشكل أساسي على اللحم والأرزّ والباذنجان.
حياتنا باتت مقلوبة. كذلك قيمنا ومبادئنا وثوابتنا
قصّة طبق المقلوبة
تُعتبر أكلة المقلوبة من الأكلات القديمة، ولذلك تتعدّد الروايات حول منشئها الأوّل وسبب تسميتها.
تشير الرواية الأولى إلى أنّ فلسطين هي أوّل دولة عرفت المقلوبة وكانوا يسمّونها الباذنجانية بسبب استخدام الباذنجان مكوّناً أساسيّاً فيها.
تضيف الرواية أنّه حينما فتح القائد صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس احتفل الناس بهذا النصر وقدّموا للجنود طبق الباذنجانية التي أعجبت صلاح الدين كثيراً. وعندما سألهم عن اسمها وصفها بأنّها مقلوبة، وذلك لأنّ عادات تقديم هذا الطبق هو عبر قلبه من قِدر الطهي على الصواني.
تشير رواية أخرى إلى أنّ هذا الطبق كان يُسمّى باذنجانية لفترة طويلة، لكن مع مرور الزمن وإدخال مكوّنات إضافية فوق الطبق سُمّيت مقلوبة لأنّ الباذنجان وبعض الخضار توضع في الأسفل وفوقها الأرزّ، ثمّ يُكبس الطبق ويُقلب على وجهه الآخر، ثمّ يُضاف اللحم والمكسّرات. ولذلك سُمّي الطبق بالمقلوبة.
رواية أخرى تنسب أصله إلى العبّاسيّين!
تشير رواية ثالثة إلى أنّ أصول طبق المقلوبة تعود إلى العصر العباسي، خاصة أنّ وصفات مختلفة لإعداد هذا الطبق قد تردّدت في أهمّ كتابين للطبخ خرجا في تلك الفترة، وهما كتاب “الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيّبات الأطعمة المصنوعات ممّا استُخرج من كتب الطبّ وألفاظ الطهاة وأهل اللبّ” لابن سيار الورّاق، و”الطبيخ” للبغدادي.
يُعدّ كتاب الطبيخ لابن سيار الورّاق أحد أقدم كتب الطبخ العربي، وتمّت كتابته ما بين 940 و960 ميلادية، وهو ما يدلّ على أنّه يعود إلى العصر العبّاسي فعلاً.
كان اسمه صيّاديّة وتحوّل لمقلوبة
تشير إحدى الروايات إلى أنّ” تلك الأكلة الفلسطينية اشتُهر بها أهل الساحل على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الذين كانوا يعتمدون في طعامهم على صيد السمك، وحينها كانت تسمّى “الصيّادية”.
كانوا في الماضي يضيفون إليها الباذنجان أو الزهرة (القرنبيط)، وفي أحيان أخرى القرع الأصفر.
انتشرت بعد ذلك بين ساكني المناطق الفلسطينية الجبلية الذين استبدلوا السمك باللحم والدجاج، ومنذ ذلك الوقت تغيّر اسمها إلى المقلوبة.
إقرأ أيضاً: هل تغيِّر مصالحة النظام السوريّ من الأمر شيئاً؟
يتّجه الرأي السائد إلى أنّ انتشار أكلة المقلوبة واكب انتشار الفلسطينيين بعد نكبة عام 1948، خصوصاً في الأردن وسوريا ولبنان وبقيّة الدول التي وصلوا إليها.
باتت الطاولة جاهزة، فنادتني الوالدة. ليس من طعام أطيب من طعام الأمّهات. نحمله منذ الصغر في وعينا ونكبر معه حتى نغادر الحياة. طبق وطبقان وثلاثة، فشعرت بالتخمة عن سبعة أيام. نظرت إلى والدتي: “هل اقتنعت أنّ “المقلوبة” أهمّ من كلّ الأخبار. حياتنا باتت مقلوبة. كذلك قيمنا ومبادئنا وثوابتنا. أمّاه هل تسمعين ذاك القول الجميل: “وكفى الله المؤمنين القتال” (سورة الأحزاب، الآية 25).
لمتابعة الكاتب على تويتر: ziaditani23@