شئنا أم أبينا، كان يوم 7 أيار 2008 والأيّام التي تلته منعطفاً لبنانياً. لنسمّ الأشياء بأسمائها. في ذلك اليوم المشؤوم الذي اعتبره الأمين العام للحزب في خطاب علنيّ “يوماً مجيداً”، استطاع الحزب استكمال الانقلاب الذي بدأه في 14 شباط 2005، يوم اغتيال رفيق الحريري في وسط بيروت في مكان يحمل أكثر من رمز واحد، مكان يندرج في سياق واضح كلّ الوضوح. اسم هذا السياق تغيير طبيعة لبنان في ضوء النجاح في تغيير الطائفة الشيعية فيه. تمّ ذلك فعلاً مع انهيار النظام المصرفي في 2019، الذي يعني بين ما يعنيه إفقار اللبنانيين وتهجيرهم من بلدهم بحثاً عن لقمة العيش.
ليس سرّاً أنّ التركيز على تهجير المسيحيين وتفريغ مناطقهم من شبابها بغية تسهيل وضع اليد على القسم الأكبر من الأرض اللبنانية تمهيداً لفرض أمر واقع… بدأ مباشرة بعد اغتيال رفيق الحريري. كرّس هذا الأمرَ الواقعَ وزيرُ الخارجيّة الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في زيارته الأخيرة للبنان. وهي زيارة شملت الجنوب الذي أكّد منه الوزير الإيراني أنّ لبنان مجرّد ورقة إيرانيّة تستطيع أن تفعل فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” ما تشاء على الرغم من وجود القوّة الدولية فيه. تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” استخدام “حماس” لإطلاق صواريخ في اتجاه الأراضي الإسرائيلية انطلاقاً من جنوب لبنان… كما تستطيع، قبل ذلك، إعطاء ضوء أخضر يسمح بترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل.
ثمّة حال من التشرذم يعيش المسيحيون في ظلّها، وهي حال تعبّر عنها أفضل تعبير المواقف المتذبذبة لجبران باسيل، رئيس “التيار الوطني الحر”، الذي عاش سنوات طويلة مستفيداً من معادلة السلاح يحمي الفساد
يظلّ الرمز الأهمّ، بين الرموز التي تضمّنتها عملية تفجير موكب رفيق الحريري، القضاء على بيروت، كمركز إشعاع في المنطقة، وبالتالي على لبنان وعلى مستقبل العيش المشترك الإسلامي – المسيحي.
نزل المسلّحون إلى شوارع بيروت في 7 أيّار 2008 من أجل إخضاع أهل السُّنّة، ثمّ اتّجهوا نحو الجبل من أجل إخضاع الدروز. حقّق الحزب نجاحاً كاسحاً، وذلك على الرغم من الصمود الدرزي. لم يكن خيار الدخول في مواجهة مفتوحة مع الحزب خياراً درزياً في أيّ وقت. لذلك فضّل الدروز الانكفاء. تخلّى وليد جنبلاط عن دور رأس الحربة الذي كان يلعبه، فيما بدأت تظهر بوادر التراجع السُّنّي الذي ما لبث أن تحوّل إلى ما يشبه فراغاً تعاني منه الطائفة في الوقت الراهن. صار السُّنّة بمنزلة الحلقة المفقودة في المعادلة اللبنانية، خصوصاً في غياب سعد الحريري من جهة، وغياب الاهتمام العربي بلبنان، وإن نسبياً، من جهة أخرى.
فرنجية.. 7 أيّار مسيحي؟
هل يحتاج “حزب الله”، ومن خلفه إيران، إلى 7 أيّار مسيحي هذه المرّة من أجل استكمال الانقلاب الذي بدأ باغتيال رفيق الحريري؟ يبدو ذلك احتمالاً وارداً إذا أخذنا في الاعتبار المقاومة المسيحيّة لفرض سليمان فرنجيّة، مرشّح الثنائي الشيعي، رئيساً للجمهوريّة.
ثمّة حال من التشرذم يعيش المسيحيون في ظلّها، وهي حال تعبّر عنها أفضل تعبير المواقف المتذبذبة لجبران باسيل، رئيس “التيار الوطني الحر”، الذي عاش سنوات طويلة مستفيداً من معادلة السلاح يحمي الفساد. نسي جبران باسيل، الواقع تحت عقوبات أميركيّة، ما وفّره له الحزب الذي أوصل ميشال عون إلى قصر بعبدا. نسي خصوصاً أنّ هناك ثمناً ما زال عليه دفعه بعدما التزم الحزب كلّ الوعود التي قطعها له ولميشال عون.
يدفع المسيحيون في الوقت الحاضر ثمن السير بميشال عون وإيصاله إلى رئاسة الجمهوريّة كي يعيشوا في “عهد الحزب”. يدفعون عمليّاً ثمن الشبق الذي يعاني منه معظم زعمائهم من الذين يريدون الوصول إلى رئاسة الجمهوريّة… بأيّ ثمن كان.
ليس سرّاً أنّ التركيز على تهجير المسيحيين وتفريغ مناطقهم من شبابها بغية تسهيل وضع اليد على القسم الأكبر من الأرض اللبنانية تمهيداً لفرض أمر واقع
من هذا المنطلق، لا معنى لأيّ انتفاضة يقومون بها حاليّاً في وجه الحزب في غياب أمرين:
– الأمر الأوّل استيعاب مدى الضرر الذي ألحقه “عهد الحزب” بلبنان واللبنانيين ومستقبل أبنائهم.
– الأمر الآخر الاتفاق على شخص معقول ومقبول ومعتدل ليكون رئيساً للجمهوريّة بعيداً عن فكرة “حماية حقوق المسيحيين”، وهي فكرة شعبوية مضحكة مبكية لا يؤمن بها سوى السذّج. فحقوق المسيحيين هي جزء لا يتجزّأ من حقوق اللبنانيين جميعاً. لا يمكن أن تكون هناك مساواة في الحقوق بين اللبنانيين ما دام سلاح “حزب الله” يتحكّم بالبلد ومؤسّساته ومرافقه المختلفة.
المسيحيون “ضربوا” أنفسهم
في ظلّ عجز واضح لدى المسيحيين في لبنان عن استيعاب هذين الأمرين قد لا تكون حاجة إلى 7 أيّار آخر مخصّص لهم يقوم به الحزب في بعض مناطقهم. يمكن القول إنّ المسيحيين أنفسهم قاموا بالمطلوب من دون الحاجة إلى “القمصان السود”. في غياب القدرة على الاتفاق على مرشّح يستطيع أن يكون منافساً جدّياً لسليمان فرنجيّة، يكون المسيحيون مكّنوا إيران، عبر حزبها، من الاستثمار في الفراغ الرئاسي كجسر من أجل تعديل اتفاق الطائف والانتقال إلى المثالثة بديلاً من المناصفة.
إقرأ أيضاً: اشتباك سعوديّ إيرانيّ في لبنان؟
مثل هذا المنطق يستبعد 7 أيّار جديداً مخصّصاً للمسيحيين، علماً أنّ ثمّة منطقاً آخر يقول إنّ الحزب في حاجة إلى فرض رئيس للجمهوريّة بطريقته الخاصة كي يكرّس الواقع اللبناني الجديد الذي كشفته زيارة وزير الخارجية الإيراني للبنان، وللجنوب تحديداً. لم يأتِ وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان قبيل وصول الرئيس إبراهيم رئيسي لدمشق من باب الصدفة. جاء الرئيس الإيراني إلى عاصمة الأمويّين ليقول إنّ هناك واقعاً جديداً في المنطقة بغضّ النظر عن الاتفاق السعودي – الإيراني الذي رعته الصين. سوريا ولبنان جزء من هذا الواقع الذي لن تترك “الجمهوريّة الإسلاميّة” مسيحيّي لبنان يقفون عثرة في وجه تكريسه.