عمرو موسى وتوم هانكس.. الحوار الوطنيّ في مصر

مدة القراءة 7 د

لم يكن أحد من المصريين يعرف شكل مبنى البنك المركزي المصري، لكنّ صورة المبنى الذي يقبع في قلب القاهرة باتت الأشهر في مصر.

أصبح المصريون ينتظرون صورة البنك أسبوعياً في أيام الخميس، حيث اعتاد البنك إعلان الأخبار الجديدة. وكعادتهم لم يسلم البنك من نكات المصريين، التي تحدّثت إحداها عن الشعب الذي لم يكن يعرف الفارق بين البنك المركزي والأمن المركزي، وصوّرت نكتة أخرى سيّدة تخرج من شرفة البنك بينما يضع الناس أياديهم على فمها، حتى لا تنطق بكلمة، خوفاً من الأخبار السيّئة التي ستقوم بإعلانها.

قاعة نفرتيتي

تلقيت دعوة لحضور الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، لكنّ ظروف سفري حالت دون ذلك، وقد أدّى البثّ التلفزيوني إلى متابعتنا وقائع الجلسة التاريخية وكأنّنا هناك. وسرعان ما أصبحت الكلمات التي أُلقيت في قاعة نفرتيتي بأرض المعارض في حيّ مدينة نصر هي حديث الصباح والمساء.

حظيت الكلمة المسجّلة للرئيس عبد الفتاح السيسي باهتمام واحترام. كما حظيت كلمات السيّد عمرو موسى والدكتور حسام بدراوي والأستاذ فريد زهران بانتشار واسع النطاق، وسرعان ما أصبحت الكلمات الثلاث حديث المدينة.

لم يكن أحد من المصريين يعرف شكل مبنى البنك المركزي المصري، لكنّ صورة المبنى الذي يقبع في قلب القاهرة باتت الأشهر في مصر

الناس يتساءلون

قال عميد الدبلوماسية المصرية والنخبوي المرموق السيّد عمرو موسى إنّه ينقل صوت المنازل والمقاهي إلى منصّة الحوار الوطني. تأثّر عمرو موسى بقصيدة شهيرة للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور بعنوان “الناس في بلادي”، وهي الجملة التي اعتاد الإعلامي الراحل مفيد فوزي أن يبدأ بها برامجه الشعبية الشهيرة.

بدلاً من “الناس في بلادي” أو “السادة الحضور” اختار عمرو موسى أن يبدأ كلّ فقرة بقوله: “الناس يتساءلون”. وراح يوضح أنّ تلك التساؤلات ليست نخبوية أو محدودة، بل هي في كلّ مكان، في “داخل هذه القاعات وخارجها، وفي بيوتهم، وفي منتدياتهم، وفي نقاباتهم، وفي مقاهيهم وتجمّعاتهم”.

طرح وزير الخارجية والأمين العام الأسبق للجامعة العربية تساؤلاته قائلاً: “ماذا جرى؟ أين فقه الأولويّات في اختيار المشروعات؟ أين مبادئ الشفافية؟ ما هي حالة الديون المتراكمة ومجالات إنفاقها؟ وكيفية سدادها والاقتصاد كما نعلم مُتعب مُرهق؟”.

“الناس يتساءلون عن الحرّيات وضماناتها، عن البرلمان وأدائه، عن الأحزاب ودورها، عن الاستثمار وتراجعه، بل وهروب الاستثمارات المصرية إلى أسواق أخرى، عن التضخّم والأسعار، أين وإلى متى؟ هل سيطرت السياسات الأمنية على حركة مصر الاقتصادية فأبطأتها أو قيّدتها؟”، ثمّ واصل عمرو موسى حديثه في الحوار الوطني بعدما ألقى على الحضور تساؤلاته الصادمة.

الدولة المدنيّة

جاءت كلمة الدكتور حسام بدراوي السياسي البارز في عهد الرئيس مبارك، والذي استطاع الحفاظ على مكانة خاصة، على الرغم من التقلّبات الحادّة التي شهدتها البلاد، هي الأخرى موضع اهتمام كبير في الصحافة المصرية.

اعتمد الدكتور بدراوي في كلمته مرجعيّتين في الحوار: الدستور، ورؤية مصر 2030. وقال إنّ احترام الدستور يكفل التعدّدية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، وبناء دولة ديمقراطية حكومتها مدنية.

ثمّ خاطب بدراوي القيادة السياسية: “التغيير لن يأتي من المستفيدين من بقاء الأمر على حاله، وهنا يأتي دور القيادة السياسية للبلاد، التي استجابت من قبل لنداء الشعب في ثورة 2013”. ثمّ مضى يتحدّث عن العلاقات العسكرية – المدنية في مصر: “يجب عدم وضع القوات المسلّحة سياسياً أمام تحدّي التنمية، فتفقد قيمتها المرجعيّة في حالة الخروج على الدستور والشرعية، أو الثورات الهدّامة إذا استدعاها الشعب.. يجب أن لا تصبح القوات المسلّحة هي المسؤولة أمام الشعب عن الأوضاع السياسية أو الاقتصادية.. مصر تحتاج إلى حكم قوي، وإلّا انفرطت مؤسّسات الدولة وتوقّفت التنمية، لكنّ ضمان عدم تحوّل الحكم القوي إلى ديكتاتورية هو ضمان تداول السلطة سلميّاً”.

أزمة قدريّة

كانت الكلمة الثالثة التي لفتت أنظار الصحافة المصرية هي كلمة رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي فريد زهران الذي فاجأ الحضور برفضه الرؤية السائدة بأنّ الأسباب الخارجية وحدها وراء الأزمة الاقتصادية الراهنة في مصر، وقال: “لا أوافق على أنّ الدولة كانت في وضع جيّد قبل جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، فالسبب الرئيسي للأزمة كانت المواقف التي اتّخذتها الدولة، ويجب عدم تصوير الأزمة على اعتبار أنّها أزمة قدريّة”.

في معركة الإرهاب كان القرار بالمواجهة مهما طال الوقت، وفي معركة الاقتصاد لا يوجد الكثير من الوقت. السباق مع الأزمة الاقتصادية هو سباق مع الزمن، فهو التحدّي الأكبر للأمن القومي في مصر

جدول أعمال مصر

كانت الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني نقطة تحوُّل مهمّة في الخطاب السياسي في مصر، إذْ ضاقت المسافة بين ما يقوله الناس في المنازل وما يقوله الساسة على الشاشة.

لا يمكن القول إنّ الكلمات المشار إليها أو غيرها كانت مفاجأة للسلطة، فلقد كان عمرو موسى وحسام بدراوي وفريد زهران يقولون ذلك في لقاءات عديدة، ولم تخرج كلماتهم في الحوار الوطني عمّا كانوا يقولونه في الأروقة المتخصّصة.

وتقديري أنّ الدولة تفكّر في إعادة إشراك النخبة السياسية في إدارة المشهد، ذلك أنّ التحدّيات الاقتصادية غير المسبوقة التي تمرّ بها البلاد لا تحتمل رأياً واحداً، كما أنّ إشراك القوى السياسية والشخصيات العامّة في هذه اللحظة الفارقة من شأنه أن يخفّف الضغط على الحكومة، ويوسّع مساحة المسؤولية العامة.

تدرك السلطة في مصر مدى صدق المتحدّثين ونزاهتهم في عرض رؤاهم، ويدركون هم أيضاً مدى اهتمام القيادة السياسية بمخرجات الحوار، ومدى حرص النظام على عدم الانجراف إلى حافة الهاوية مرّة أخرى، فلا تحتمل مصر أن تقع في ذات الحفرة مرّتيْن.

توم هانكس في الزمالك

كان توم هانكس هو المنافس الأبرز للحوار الوطني في وسائل الإعلام المصرية في الآونة الأخيرة. ففي تلك الأثناء كان النجم الأميركي وزوجته الفنّانة ريتا ويلسون و16 من الأصدقاء يتناولون طعام العشاء في مطعم “أبو السِّيد” في منطقة الزمالك الراقية وسط القاهرة. لم تعلم السلطات السياحية ولا المؤسّسات الفنّية المصرية بالأمر، بل كان أحد زبائن المطعم هو من قام بنشر مقطع فيديو لتوم هانكس وعائلته وأصدقائه، بينما تتراصّ أمامهم أطباق الملوخية بالأرانب، والشعريّة بالموزة.

في عام 2014 زار توم هانكس مصر وسط حراسة مشدّدة من الشرطة المصرية، وفي 2023 زار مصر بدون حراسة وبدون معرفة السلطات المصرية. وهنا يكمن الفارق الكبير بين عام 2014 حين كان الإرهاب يطلّ برأسه، والخوف من المتطرّفين يتمدّد في كلّ مكان، وبين عام 2023 حيث نجحت مصر في القضاء على الإرهاب، وفشلت كلّ مشروعات الإسلام السياسي في سرقة السلطة وفي تكسير الوطن.

توم هانكس والحوار الوطنيّ

إنّ الرسالة من تزامن زيارة توم هانكس مع استئناف الحوار الوطني، هو أنّ جدول أعمال مصر قد تغيّر، فلم يعد الهدف الاستراتيجي للدولة المصرية مواجهة أزمة الإرهاب، بل مواجهة أزمة الاقتصاد.

إقرأ أيضاً: السودان وسويسرا.. لماذا يفشل العرب وينجح الآخرون؟

لقد نجحت مصر بامتياز في المعركة الأولى، وليس أمامها سوى أن تنجح في المعركة الثانية.

في معركة الإرهاب كان القرار بالمواجهة مهما طال الوقت، وفي معركة الاقتصاد لا يوجد الكثير من الوقت. السباق مع الأزمة الاقتصادية هو سباق مع الزمن، فهو التحدّي الأكبر للأمن القومي في مصر.

يدرك المصريون أنّ بلادهم قادرة على تجاوز الأزمة، لكنّهم يتساءلون: متى؟ وكيف؟

من هنا يبدأ الحوار الوطني في مصر.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…