خسرت “المسيحية السياسية” على الدوام. كانت خسارتها بسبب “مغامرات” الرهانات من دون أن تبني خيارات سياسية واضحة. طغت المسارات الوجدانية العاطفية على العقلانية السياسية. باستثناء عهد فؤاد شهاب لم يظهر منها من هو قادر على القراءة العقلانية، مع ما تميّز به الرجل من رجاحة عقلانية في إدارة “الجمهورية المتناقضة”. الإعجاب بإدارة الرئيس الراحل الياس سركيس يستدعي وقوفاً عند ما أفضت إليه، وأحطُّه كان وصول أرييل شارون إلى بعبدا.
يوازي هذا الانحطاط ما كان نتاجاً للهيمنة السورية على البلد بعد اتفاق الطائف، ثمّ إثر مقتلة الرئيس رفيق الحريري وتسيُّد إيران على القرار الوطني اللبناني. تعاقب المغامرات اللبنانية جعل من اللبنانيين قتلى الدفاع عن “القرار الوطني المُستقلّ”. صاروا على مثال الفلسطينيين في معاركهم حفظاً “لاستقلالية القرار”. وفي المعركتين لم يبقَ أحدٌ إلا وتدخّل في مصائر وأحوال الشعبَين.
“الدور” الضائع
اليوم وفي خضمّ الشغور الرئاسي بانتظار أن ينجلي الهذر المسيحي في العلاقة مع لبنان، فإنّ الجميع رهن “المسيحية السياسية” وهذرها المُقيم في مناكفاتها الداخلية وفي استنفار خصومة “الآخر” في البلد، وهو كثير ومتنوّع.
“المسيحية السياسية” هذه، بوصفها تعبيراً سياسياً وسوسيولوجياً، تغفل عن وعي عميق، بسبب من “شخصانية رهيبة”، الكيفيّة التي تُصار من خلالها إعادة تركيب المنطقة برمّتها.
تنهض طبيعة مرحلة إعادة ترتيب المنطقة على قاعدة ترسيم حدود النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي لهويّة المنطقة. وهذا على وجه التحديد ما يتطلّب من المسيحيين عموماً، وتعبيرهم السياسي الأكثر تجلّياً عبر “ترويكا القوّات والتيّار الوطني والكتائب”، بطاقة تعريف جديدة لمعنى حضورهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
حاجة “المسيحية السياسية” المُلحّة والماسّة اليوم هي التخلّي عن الانشطار بين “شيعيّ” و”سُنّيّ”، فإذا ربح أحدهما نربح معه
يعني هذا التعريف بالضرورة الانتقال من مرحلة اعتبار ذواتهم خارج التأثير السياسي في المنطقة، وأنّهم “تلوين سياسي وثقافي” في الشرق. غير ذلك يعني الاستمرار بالنظر إليهم بعين التجاهل، سواء من المسلمين أو من الغربيين. فهم ليسوا مواطنين من درجة ثانية، وليسوا رأس حربة لغرب تغيّر كثيراً في كلّ شيء.
حاجة “المسيحية السياسية” المُلحّة والماسّة اليوم هي التخلّي عن الانشطار بين “شيعيّ” و”سُنّيّ”، فإذا ربح أحدهما نربح معه. الاتفاق السعودي ـ الإيراني غيّر كلّ ما هو سائد. ذهب بعيداً في إعادة تعريف المنطقة سياسياً وثقافياً. قد يكون هذا التعريف موقوفاً على اللحظة التي تنتهي فيها الحرب الأوكرانية، وتعود بعدها الولايات المتحدة إلى صياغة أدوارها الجديدة بالمنطقة عموماً.
غفلة بكركي عن حوار الحضارات
حالة “المسيحية السياسية” اليوم على مثل ومثال “مأساوية آرثر شوبنهاور” أو في أحسن الأحوال “عبثية” ألبير كامو. اليوم هي بأمسّ الحاجة إلى الارتقاء من هذه المرتبة من الوجود إلى مرتبة الحضور والتأثير السياسيَّين بالمنطقة.
غيابها بما تُمثّل عن معاينة وتحديد رأي واضح في ملفّات المنطقة، يغيّبها عن مربّع التأثير السياسي. أصبحت ملفّات المنطقة واضحة: الربط مع المعاصرة والحداثة صحّياً، علمياً، تربوياً، ثقافياً، سياسياً واقتصادياً.
هذا واقع تغيب عنه “المسيحية السياسية”، لا لشيء إلا لإسقاط ترشيح سليمان فرنجية. دعك من الأخير. فقد يستحقّ معركة ضدّه أو معه. لكنّ السؤال: على أيّ أساس سياسي يعيد لبنان إلى ما كانه يوماً، خصوصاً أنّ الرجل تعهّد برباعية تُحوّل البلد إلى دولة:
– المُعالجة الفورية للأزمة الاقتصادية.
– جهوزية عالية للانفتاح على كلّ الطروحات.
– ترسيم الحدود مع سوريا.
– إقرار الاستراتيجية الدفاعية.
– معالجة أزمة وملفّ النازحين؟
الأهمّ الذي يستدعي من “المسيحية السياسية” التنبُّه إليه هو أنّ الصراع التاريخي السُنّيّ ـ الشيعي يُعاد ترتيبه على قواعد جديدة بعد إعلان الاتفاق السعودي ـ الإيراني.
يعني هذا الإعلان على معناه العميق شيئاً واحداً: عدم السماح لأيّ طرف بأن يتلاعب من بعد 11 أيلول 2001 بالعالم الإسلامي، حيناً بتصوير السُّنّة بأنّهم مصدر إرهاب، وأحياناً بناء تقدير على أنّ الشيعة لا يشكّلون “بوليساً” كافياً لمصلحة الولايات المتحدة بالمنطقة، كما كان الشاه ذات مرّة.
خسرت “المسيحية السياسية” على الدوام. كانت خسارتها بسبب “مغامرات” الرهانات من دون أن تبني خيارات سياسية واضحة
حتّى آخر مسيحيّ
أيضاً وأيضاً يبعث غياب “المسيحية السياسية” الراهنة على الارتياب في ما إذا كانت مهمّتها إنجاز ما قدّره جوناثان راندال الكاتب السياسي المرموق عام 1984 في مؤلّفه “حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي”، الذي عاين فيه عن كثب هذر القادة المسيحيين اللبنانيين ومغامراتهم شرقاً وغرباً وما ترتّب على ذلك من أكلاف مهولة، من دون تعيين دور ووظيفة محدّدين في الاجتماع الأهلي اللبناني.
الأسوأ هو غياب “المسيحية السياسية” بمعناها الكهنوتي ومضمون حضورها السياسي عن حوار الثقافات والحضارات بالمنطقة:
– اختفاء كُلّي عن “البيت الإبراهيمي” على الرغم من عدم جدوى الأخير دينياً وسياسياً.
– غياب عن معنى ومضمون وجود البابا فرنسيس في الأزهر.
– جهل مُطبق بمضمون زيارة سيّد الفاتيكان للعراق ولقائه المرجع الشيعي العربي الأبرز علي الحسيني السيستاني.
– اختفاء كلّي عن حضور بابا روما بالبحرين في “حوار الحضارات”.
– الأمر الأكثر كارثيّة كان في الزيارة اليتيمة للبطريرك الراعي للمملكة العربية السعودية في 2017، من دون أن تتابع بكركي البناء على أهميّة ما تأسّس آنذاك، ولو عبر لجنة من المطارنة.
تاريخ يتكرّر
على دأب وسيرة “المسيحية السياسية” يتوارث الحاضرون الآن غابراً عن غابر. مأزومون على الدوام. سوء التفاهم عميق جدّاً. ضياعهم يفضح ما هو أكثر: يذهبون إلى “فئوية” ضيّقة بدلاً من الانفتاح. يحصل هذا فيما هم ينكفئون أكثر فأكثر مع تحوّلات ديمغرافية تصاحبها هشاشة في التسييس والتثقيف، اللهمّ إذا استثنينا التحشيد الطائفي الذي لا يفضي إلا إلى الانتحار الطوعي.
الزعماء الأساسيون، خصوصاً الثلاثي منهم: جبران باسيل، سمير جعجع، وسامي الجميّل، يخوضون معركة حسم زعاماتهم داخل الطائفة استعداداً ليكونوا ناخباً أوّل في أحسن الأحوال. هذه معارك سلبية لا تؤدّي إلى نجاح ما. ربّما تفيد سمير جعجع أو جبران باسيل، وفي أسوأ الأحوال سامي الجميّل. هذا لن يؤدّي إلى ارتقاء المسيحيين من مستوى “التنوّع الديني” إلى تبوُّؤ مرتبة التأثير والحضور السياسيَّين.
مثل هذه الحال يعني البقاء في مربّع المواضي وآلامها عليهم وعلى الآخرين. عكس ذلك يعني وجوب الارتقاء إلى بناء فكرة سياسية تؤدّي إلى معنى واحد: المسيحيون ضرورة وليسوا لزوم ما لا يلزم. السلبيات لا تُفضي إلا إلى التأزيم. فالحاجات اللبنانية كثيرة بكثرة التعقيدات التي تراكمت على البلد وأهله. والمعاينة السياسية، أيّ مُعاينة، يجب أن تنهض على الأولويّات التي تحوّل البلد من بلدٍ إلى دولة.
حتماً لسمير جعجع الحقّ برفض انتخاب سليمان فرنجية، إنّما يخطئ عندما يقود معركة عدم وصول سليمان فرنجية. وإذا كان ذلك ما يريده فعليه أن يذهب باتّجاه من اثنين:
– التفاهم مع جبران باسيل والعودة إلى ما يشبه “معراب 2” السيّئ الذكر.
– أو التوجّه نحو “بريستول 2” على قاعدة التفاهم مع غلبة لبنانية، بينها الزعيم وليد جنبلاط، على حدود المواجهة مع الحزب.
الثابت أنّ جنبلاط غير مستعدّ لطرح سلاح الحزب على قاعدة تنفيذ القرار 1559 الذي أودى برفيق الحريري. الزعيم الدرزي لم يخدع أحداً في هذا السياق، ولم يتقلّب كما يتردّد عنه، وتحديداً في ذلك. لقد كان على الدوام ومنذ عام 2004 يقول “ملف سلاح الحزب هو شأن داخلي، والعكس من ذلك يعني الحرب”. عندما غفل عن هذه القاعدة بدعوى “حماسته”… كان يوم 7 أيار المشؤوم.
إقرأ أيضاً: رئاسة الجمهورية صارت لابتزاز المسيحيين!
شيخوخة “المسيحيّة السياسيّة”
مصادر تحليل شيخوخة “المسيحية السياسية” أعقد من أيّة عملية حسابية أو تحليلية. استعصاؤها على الفهم تتداخل فيه عوامل كثيرة. لكنّ انطواءها على “عقل أقلّوي” فيه ما فيه من تردٍّ سياسي وثقافي واجتماعي وفنّي، وحتماً سيُقابل بـ”عقل أكثريّ” طبيعته هي في قدرته التدميرية.
والحال هذه، فإنّ “اللبنانويّة” المنطلقة من ذات لبنانية انطوائية عمرها قصير وقصير جدّاً في عالم سِمتُه الانفتاح. ولبنانويّة من مثل هذا الطراز ما عادت تملك شيئاً. حتى ادّعاءاتها في المصرف والمستشفى والتعليم صارت سراباً. الأرجح أنّ المطلوب منها التفكير بعقلانيةٍ جوهرُها الرحابةُ قبل أيّ شيء.
في ظلّ هذا التردّي الذي لا يني يتوالى انحداراً، هل ثمّة مسيحيون ينتجون جديداً غير البكاء “الأقلّوي”، وينتجون ما هو غير كلاسيكي، أي غير عوني أو قوّاتي أو كتائبي، لمواجهة التحدّيات التي تواجههم كما غيرهم من اللبنانيين؟
السُّنّة أنجزوا دوراً استثنائياً. الشيعة على ثنائيّتهم المُسلّحة حتى الأسنان، فيما البلد كلّه على فوهة بركان، ويندرج في آخر أولويّات الدول.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@