نسي الدبلوماسي الفرنسي العريق موريس غوردو مونتانيو كلَّ دبلوماسيّته، وقرّر أن يفتح الملفّات دفعة واحدة، فبدا في كتابه الجديد الحامل عنواناً غريباً: Les autres ne pensent pas comme nous (الآخرون لا يفكّرون مثلَنا)، وكأنّه بصدد تصفية حساباتٍ مع عددٍ من القيادات والدول في قضايا كان الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك قد كلّفه بها حين تولّى أرفع منصب بين مستشاريه.
في الجزء الأول ننشر ما جاء في الكتاب من معلومات تؤكّد أنّ أميركا قرّرت منذ عام 2002 اجتياح العراق وإسقاط الرئيس صدّام حسين بالقوّة، وأنّ واشنطن تعاملت باستعلاء واحتقار مع فرنسا. وفيه أيضاً تفاصيل اللقاء الذي جمع ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكيف فرض بن سلمان هيبته على اللقاء.
التحقير الأميركيّ لفرنسا قبل وبعد اجتياح العراق
منذ مطلع صيف عام 2002 كان واضحاً أنَّ الأميركيّين قرّروا الذهاب إلى الحرب.
الرئيس شيراك رفض الحرب انطلاقاً من نظرة شاملة لتوازن المنطقة والعالم. فهو قال لجورج دبليو بوش إنَّ “الحرب سوف تزعزع استقرار المنطقة، وسيكون من نتائجها تسليمُ بغداد للشيعة المقرّبين من إيران، وستقوّي يدَ إيران في سوريا ولبنان مع حزب الله. وهذه الحرب لن تكون شرعيّةً، وسوف تزرع الشقاقَ في الأسرة الدوليّة، وتُفقدُ الغربَ شرفَه، وستُحدث فوضى تؤدّي إلى موجات من الإرهاب من الصعب السيطرة عليها”.
فرضت هيبةُ محمّد بن سلمان نفسها، وربّما سيطر على نظيره الفرنسي، وكان يوحي من خلال ابتسامته فوق أسنانه البيضاء ولحيته السوداء المشذّبة بإتقان
قال شيراك لبوش أيضاً إنَّ فرنسا تقبل استخدامَ القوّة فقط إذا عطّل العراق عمل مراقبي وكالة الطاقة الدوليّة. وحين طلبت الأمم المتّحدة من العراق تقديمَ وثائقَ تثبت عدم امتلاكه أسلحة دمار شامل، قدّمت القيادة العراقيّة بالفعل وثيقةً من اثني عشر ألف صفحة، لكنّ مستشارة الأمن القومي عند بوش، السيدة غوندوليسا رايس، اكتفت بالقول ساخرة إنّ “هذه الوثائق مزحة وحسب”.
لم تكن تسمع غوندوليسا رايس التبريرات الفرنسيّة وتكتفي بطرح السؤال: هل ستكونون معنا في الحرب أم لا؟ وتؤكّد أنَّ هدف إطاحة صدّام حسين أهمُّ من أسلحة الدمار الشامل، لكنّ قمّة الغرور والاحتقار جاءت على لسان بول ولفوفيتز أحد أهمّ منظّري إدارة بوش والمحافظين الجدد، والذي كان نائباً لوزير الدفاع. ففي أوّل اجتماع مع مستشار شيراك، تركه ينتظر طويلاً قبل استقباله، ثمّ راح يحكي ويتصرّف بغرور يقارب التهديد حين قال لموريس غوردو مونتانيو: “نحن نعرف ما تعرفون” في اتّهام واضح لفرنسا بأنّها تعرف أنّ صدّام حسين يملك أسلحة الدمار الشامل… (وهو ما ثبُت كذبُه لاحقاً باعترافات الأميركيّين والبريطانيّين).
يقول موريس غوردو مونتانيو إنَّ “بول ولفوفيتز كان يُعبّر بلهجته ولغة جسده وبسبّابته التّي يوجّهها صوبي، عن قلّة احترامه لفرنسا ومسؤوليها الجبناء بنظره والانهزاميّين، ولم يسمع شيئاً ممّا قلته له”.
الأسد لم يسمعني وكان الأميركيّون همّه
ذهب موريس غوردو مونتانيو إلى دمشق للقاء الرئيس السوريّ بشّار الأسد، حاملاً اقتراحاً ثُلاثيّاً من فرنسا وألمانيا وروسيا، وذلك بعد استقبال الأسد وزيرَ الخارجيّة الأميركيّة كولن باول في أواخر صيف عام 2003.
يقول غوردو مونتانيو في كتابه: “أجلسني الأسد قبالتَه، ولم يظهر على وجهه أيُّ تعبير، ولم تكن نظراتُه قادرة على إظهار أيّ شعور، فكنتُ غيرَ قادر على تلمُّس موقفِه من الذرائع التي قدّمناها. شدّدتُ على ضرورة الحفاظ على سيادة سوريا، وخلافاً لما قيل لم أطلب منه أن يتخلّى عن الجولان أو أن يذهبَ إلى إسرائيل. لكنّني سُرعان ما أدركت أنّه لا يسمعني، وأنَّ كلّ ما كان يهمّه هو اعتراف الأميركيين به. لم أشعر في أيّ لحظة بأنَّه كان يُدرك حقيقة الزلزال الحاصل في العالم، وما كان يهمّه فقط هو سوريا والحفاظ على أسس النظام. خرجت من عنده من دون أيّ مغالاة بالتوقّعات..”.
ثمّ يروي مونتانيو كيف مرّ على لبنان والتقى رئيس الحكومة الراحل الرئيس الشيهد رفيق الحريري، ويقول إنَّ ذلك ربّما كان خطأ في التقدير، لأنّه بعث برسالة خاطئة إلى الأسد.
ويتطرّق المستشار الرئاسيّ الفرنسي السابق في كتابه إلى الحرب السوريّة الحاليّة، وإلى السياسة الفرنسيّة حيالها، فيُحمّل الرئيس السابق لوران فابيوس مسؤوليّةَ العجز حيال الأزمة السورية وخطأ تقدير القوات الموجودة على أرض سوريا، ويقول: “ها هو بشّار الأسد ما زال في مكانه، مستنداً إلى نظام بوليسي أسأنا تقديرَ قوّته، وقلّلنا من أهميّة الدور الروسي على الرغم من وجوده هناك عسكرياً وإنسانياً منذ عشرات السنين”.
هيبة بن سلمان تسيطر على ماكرون
كنّا في زيارة رسميّة، كتلك التي تعرفُ الجمهوريّة كيف تُعدُّها وتنظّمُها. هي واحدة من زياراتنا للشرق الأوسط، وقد رافقتُ فيها وفدَ الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان قد انتُخبَ قبل فترةٍ قصيرةٍ لولايتِه الرئاسيّة الأولى. كنّا ضيوفَ الإمارات العربيّة المُتّحدة لافتتاح متحف “اللوفر” في أبو ظبي الذي طال انتظارُه. كانت الإجراءات الدبلوماسيّة في هذا النوع من الأحداث تسيرُ على نحوها الطبيعيّ، لو لم تُثَر في خلال الغداء الذي أقامه لنا وليّ العهد الشيخ محمد بن زايد، إمكانيّة لقاءٍ مع محمّد بن سلمان، الرجل القويّ الجديد للمملكة العربيّة السعوديّة، وريث العرش أيضاً، الذي يتابع العالمُ الغربيّ باهتمامٍ أوّل مساعيه لتحديث المملكة الوهّابيّة.
لم يكن بين إيمانويل ماكرون ومحمّد بن سلمان حتّى ذاك الوقت، سوى اتّصالاتٍ تلفونيّة شبه جامدة، ذلك أنّ بعضَ سوء التفاهم بين فرنسا والمملكة كان ينبغي إزالتُه، وكانت أهميّة المصالح تقتضي بأن نكون قادرين على قلب نمطيّة الدبلوماسيّة وقوالبها التقليديّة، كي نجرؤ على تحديد موعد سريع وبلا تحضيرٍ مُسبق.
تولّى محمّد بن زايد مهمّة المساعي الحميدة، قياساً إلى المصلحة الاستراتيجيّة، أو بناءً على ذكرى المحبّة التّي كان والدُه الشيخ زايد يكنّها لفرنسا، والتي نسج معها، عبر جاك شيراك، علاقة أخويّة دائمة. وقد أراد (الشيخ محمّد بن زايد) اعتمادَ مثلَ تلك العلاقة مع الرئيس ماكرون، من خلال الثقة المتبادلة نفسها.
في 9 تشرين الثاني، وفي خلال عودتها من الإمارات، هبطت الطائرة الرئاسيّة الفرنسيّة في مطار الرياض. وقد قفزنا فوق البروتوكولات المعهودة، للسماح للرئيس والأمير بلقاءٍ ثنائيّ، من دون أن يبدو في الأمر تقدُّم لأحدهما على الآخر. وتمّ الاتفاق على أن تكون هذه المحطّة الدبلوماسيّة غير المتوقّعة، فرصة للقاء بسيط في القصر الملكي الهائل في المطار، حيث جاء محمّد بن سلمان يُصافح الرئيس الفرنسيّ ويتحاور معه.
استقبل محمّد بن سلمان إيمانويل ماكرون بهدوئه الواثق وبابتسامةِ أولئك الذين ما اعتادوا أن يعارضَهم أحد. كان يُحيط به نحو عشرة وزراء ومستشارين، ليسوا بطبيعة الحال ذوي خبرة طويلة، ما خلا بعض الاستثناءات بينهم، وكان دورُهم على ما يبدو تدوين الملاحظات.
فرضت هيبةُ محمّد بن سلمان نفسها، وربّما سيطر على نظيره الفرنسي، وكان يوحي من خلال ابتسامته فوق أسنانه البيضاء ولحيته السوداء المشذّبة بإتقان، بسُلطة لافتة بدون أيّ منازع، وكانت عيناه تلمعان جُرأة.
بدأت المحادثات بالإنكليزية ببعض الأمور العابرة، ثمّ حان سريعاً موعدُ الغداء، الذي عبَّر مضيفُنا في خلاله عن رغبة حقيقيّة بنسج علاقات ثقة بين البلدين. كانت المائدة المزيّنة بالورود عامرةً بالمازات (المُقبّلات) ولحوم الغنم، والدجاج، والحلويات المنوّعة، وعصائر الفواكه، مُذكّرةً بتأثير المطبخ اللبنانيّ الذي يجذب الغربيّين بشكل عام.
أخذت المُحادثات منحى مختلفاً تماماً، فنزعت عنها المفردات والآراء المسبقة المعهودة للغة الدبلوماسيّة، وراح كلُّ منهما يستخدم لغتَه الأمّ في محاولة لإقناع الآخر على نحو أفضل، يساعُدهما في ذلك مترجمان.
خاض الرجُلان المُعتادان على النصر، والمهتمّان بصورتَيْهما كاثنين من كبار رجال التحديث، خطابين طويلين متوازيَيْن، ثمّ فجأة تغيّر وجهُ محمّد بن سلمان، وتغيّرت لهجتُه وعباراتُه
كان الحوارُ موزوناً ودقيقاً، ثمّ ارتفعت حرارةُ النقاش، وراح إيمانويل ماكرون يتحدّث عن سياسته، ويتطرّق إلى طموحه أن يطوِّر فرنسا العجوز، ذلك أنّه كان قد وصل حديثاً إلى الرئاسة وواثقاً بعملِه وقوّة خطابه. وكان وليّ العهد يسعى أيضاً إلى تحديث المملكة، بعد ثلاثين عاماً من الركود، وفق ما أسرّ لنا. وراح يُشدّد على آفاق الإصلاح في المجال الدينيّ، قائلاً إنّ “ما هو جيّد للسعوديّة، بلاد الحرمين المُقدّسين في الإسلام، سيكون جيّداً أيضاً للشرق الأوسط وكلّ العالم الإسلاميّ”.
بالنسبة لي، أنا الذي قمتُ بمهمّات عديدة موفداً من قِبَل جاك شيراك إلى الملك عبدالله، كان التناقضُ واضحاً، فها إنّنا نكتشفُ مملكةً سعوديّة مغايرة عن تلك التي عرفتُها، ونكتشفُ جيلاً جديداً من القيادات، لا يستبعد أيّاً من التحدّيات الداخليّة الواجب مواجهتها، من دون الاهتمام بالطريقة الواجب اعتمادُها للوصول إلى ذلك. وهذه كانت نقطة مشتركة بين محمّد بن سلمان وإيمانويل ماكرون.
خاض الرجُلان المُعتادان على النصر، والمهتمّان بصورتَيْهما كاثنين من كبار رجال التحديث، خطابين طويلين متوازيَيْن، ثمّ فجأة تغيّر وجهُ محمّد بن سلمان، وتغيّرت لهجتُه وعباراتُه، وأشار بسبّابته (إصبعه الثاني) إلى الرئيس الفرنسي على نحو اتّهاميّ مُعيباً عليه موقفه من إيران، وموقفه بشكل عامٍّ من سياسةِ بلادنا في مواجهة طهران. حلّت الدهشة في صفوف الوفد الفرنسيّ، خصوصاً حين هدّد وليُّ العهد بمقاطعة الشركات الفرنسيّة، إذا ما واصلنا السير في هذه الطريق، وتركنا شركاتِنا تتّخذ من إيران ساحةً لها.
إقرأ أيضاً: الحرب العالميّة الثالثة اندلعت.. وهذا المتوقّع
تساءلتُ في تلك اللحظة بالضبط عمّا إذا كُنّا قد أخطأنا في أخذ موعدٍ على عجل، من دون إعدادٍ، لكن لم يتسنَّ لي الوقت للتفكير في كلّ ذلك، إذ سارع ماكرون إلى الردّ واضعاً قبضَته على الطاولة وبالانفعال نفسه الذي واجهه، وقال: “يا سموّ الأمير، أنا رئيس دولةٍ حُرّة ومستقلّة، وفرنسا لا تتصرّف بناء على التهديد أو الوعيد، وسأواصل سياستي، خصوصاً حين يتعلّق الأمرُ بمكافحة الانتشار النوويّ، وأعتقد أنَّ ثمّة مجالاتٍ عديدةً نستطيعُ العملَ معاً بشأنها”.
هضمَ محمّد بن سلمان الردّ، من دون أن يبدوَ عليه أيُّ شعور، ثمّ ابتسم وانتقل إلى موضوعٍ آخر، وراح يحكي عن مصالحنا الاستراتيجيّة المشتركة، وخصوصاً ما يتعلّق منها بمكافحة الإرهاب. بدا الأمير مُنفتحاً وبنّاءً، وعُدنا الى باريس محمّلين بوعد المساهمة الإضافيّة بنصف مليار دولار لقوّاتنا العاملة في الساحل (الإفريقيّ) 5G Sahel.
*غداً: مستشارُ شيراك (2): المغرب صاحب الشرعية في الصحراء الغربيّة والجزائر بيد الإسلاميين
لمتابعة الكاتب على تويتر: samykleyb@