صواريخ إيران.. وتخريب “اتّفاق بكين”

مدة القراءة 7 د

هل أراد مطلق الصواريخ على إسرائيل من غزّة ولبنان وسوريا أن يخرّب الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين؟ أم هي محاولة إيرانية للمحافظة على قواعد اشتباك واضحة تضمن قدرتها على استخدام أوراق قوّتها ضدّ إسرائيل بعد هذا الاتفاق، باعتبار أنّ الاتفاق لا يشمل إسرائيل بل يساعد على تهديدها أكثر؟
أيّاً كان الجواب على هذين السؤالين، يمكن استعراض سيناريوهات مرتبطة بكلّ واحد منهما:

1- بالعودة إلى السؤال الأول الذي طرح وجود محاولات لتخريب الاتفاق، يتبيّن أنّ هناك قوى عديدة متضرّرة منه أو منزعجة:
أولاها الولايات المتحدة الأميركية التي استدعت القرارات السعودية الأخيرة زيارة سرّية لرئيس المخابرات الأميركية وليم بيرنز للرياض. وبالتأكيد واشنطن منزعجة من إعطاء هذه الورقة للصين، باعتبارها ترسم ملامح رؤية استراتيجية “ما بعد اقتصادية” للصين في الشرق الأوسط.
– ثانية القوى المنزعجة هي إسرائيل التي كانت تأمل تحقيق الكثير من التقدّم على صعيد العلاقات مع الدول العربية، وتطمح إلى رفع منسوب اتفاقات التطبيع، وخصوصاً مع المملكة العربية السعودية، على قاعدة التعاون لمواجهة إيران والتصدّي لمشروعها في المنطقة.
– ثالثة القوى المنزعجة هي جهات إيرانية داخلية، ولا سيما جزء أساسي من الحرس الثوري يفضّل استمرار الصراع وتصعيده ربطاً بديمومة المشروع الخارجي لإيران، وبالظروف الداخلية، وذلك في إطار التحضير لرسم معالم المرحلة المقبلة للنظام الإيراني وتوازناته.

سيكون الاتفاق السعودي الإيراني بحاجة إلى وقت طويل ليطبَّق تماماً، كما أنّ محاولة تخريبه والانقلاب عليه ربّما ستكون بحاجة إلى وقت أطول وإلى جهود كبرى لا تتّصل فقط بتفاصيل الملفّات الإقليمية

هنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطة أساسية تكشف الفارق الكبير بين الموقع السعودي والموقع الإيراني في هذا الاتفاق. ففي السعودية تقوم نهضة ثقافية اقتصادية اجتماعية وماليّة، ويوجد قرار مركزي واحد يأخذه ملك واحد ووليّ واحد للعهد يقترب من تولّي الحكم بدون أيّ تشويش وبدون أيّ صراعات داخلية. وهو ما سينقل السعودية إلى طور شبابي تحديثي يواكب الانتقال إلى الجيل الثالث، ويتماهى تماماً مع الطبيعة الفتيّة والشبابية للمجتمع. أمّا الواقع الإيراني فيقوم على صراعات متوالية بين أجنحة متعدّدة، إذ يدور فيه صراع بين عدد من أجنحة الحرس الثوري، وصراع آخر على خلافة مرشد الجمهورية الإسلامية، وهذا ما خلق تنافساً بين عدد كبير من الطامحين الذين يتوزّع دعمهم على مراكز قرار وتنفيذ متعدّدة.

إلى ذلك تواجه إيران احتجاجات شعبية سياسية واقتصادية في ظلّ الظروف الخانقة التي يعيشها المجتمع الإيراني، ولا يمكن إغفال حجم الاستنزاف الذي تتسبّب به ساحات السيطرة الإيرانية إقليمياً.
– رابعة القوى المنزعجة هي القوى الحليفة لإيران، سواء في سوريا أو لبنان أو اليمن أو العراق. ليس بالضرورة هنا أن يكون كلّ الحلفاء معارضين. قد يكون هناك تباينات واختلافات في المقاربات. لكنّ كثيرين يخافون أن تتهدّد أدوارهم بفعل التسويات.
– خامسة القوى المنزعجة قد تكون جهات دولية متعدّدة كانت تطمح إلى لعب دور الوسيط بين إيران والمملكة العربية السعودية، وحاولت أن تكون صلة الوصل بين الطرفين، فوجدت دورها في حالة انتفاء بسبب الاتفاق والتواصل المباشر.
يمكن لهذه القوى أن يجتمع بعضها مع بعضٍ وتتقاطع مصالحها، ويمكن اجتماع عدد منها على قاعدة الاستفادة المتبادلة في التصعيد لمحاولة تعطيل الاتفاق طمعاً باستمرار الدور والفعّالية.

تقول طهران إنّ الاتفاق السعودي الإيراني يسعى إلى تكريس استقرار المنطقة، لكن من دون إسرائيل، ومن دون تطميناتٍ لها

بناء عليه جاءت التطوّرات الفلسطينية الأخيرة ذريعة لتقوم جهات موالية لطهران بشنّ هجومات صاروخية من لبنان وغزّة وسوريا باتجاه الإسرائيليين. وقد أتت هذه الخطوة إثر اشتباك أميركي إيراني في شمال شرق سوريا، مع أنّ الإيرانيين تبرّأوا في رسالة بعثوا بها إلى الأميركيين من هذه العمليات التي قامت بها مجموعات موالية لهم، ووُضع الأمر في سياق “العناصر غير المنضبطة” أو العناصر التي تحاول تخريب الاتفاق السعودي الإيراني. وفي هذا السياق تناقلت وسائل إعلام إيرانية كلاماً عن توقيف مسؤولين يريدون تخريب الاتفاق من الإيرانيين واللبنانيين واليمنيين داخل إيران.

القوى التي يمكن أن تسعى إلى تخريب الاتفاق تحاول رفع منسوب التوتّر ورفع اللهجة التصعيدية أيضاً. فمن جهتهم نظّم الأميركيون استعراضهم العسكري، وأمّا الإسرائيليون فكثّفوا عملياتهم العسكرية التي استهدفت مواقع لإيران والحزب في سوريا، كما لو كانت محاولة إغواء للتصعيد المتبادل.

الفصل بين الصين.. وإسرائيل؟

بالانتقال إلى السؤال الثاني الذي طرح إمكان أن يندرج التصعيد الإيراني في خانة الفصل بين الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وبين التصعيد ضدّ إسرائيل، فذلك يقود إلى خلاصة واضحة بأنّ إيران تقول للأميركيين والإسرائيليين إنّها ذهبت إلى الاتفاق مع السعودية وليس مع أيّ منهما. وبالتالي لن تتخلّى عن أوراق القوّة التي بين يديها في المنطقة، سواء كانت هذه الأوراق لبنانية أم سورية أم فلسطينية.
أبعد من ذلك، تقول طهران إنّ الاتفاق السعودي الإيراني يسعى إلى تكريس استقرار المنطقة، لكن من دون إسرائيل، ومن دون تطميناتٍ لها.
في كلتا الحالتين، سيكون الاتفاق أمام الكثير من المحطات المفصليّة والصعبة، وسيحتاج إلى المرور في الكثير من المعموديّات ليصبح نافذاً ولتكريس الالتزام التامّ به. وعلى الطريق إليه يُتوقّع حصول صدامات كثيرة قد تنشأ بحكم ظروف موضوعية أو بافتعال من قوى متعدّدة.
من المؤكّد أيضاً أنّ الجهتين الأكثر تأثيراً في مجريات الاتفاق والتخريب عليه هما الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. تبقى القدرة الإسرائيلية أدنى بكثير من القدرة الأميركية التي ستبقى الكلمة الفصل لها، خاصة أنّ واشنطن في هذه المرحلة هي أكثر من يعي حقبة التحوّلات العالمية المشهودة. وهي أكثر من يعرف كلّ الأسباب التي دفعت السعودية إلى الذهاب إلى الصين وجعلها ضامنة لهذا الاتفاق مع إيران، بعد تجارب مريرة مع الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ولاية باراك أوباما إلى دونالد ترامب وصولاً إلى جو بايدن، خصوصاً أنّ كلّ النزعات الأميركية تركّز على مصلحة “أميركا أوّلاً”، والتخفّف من كلّ أثقال وأعباء تكاليف الأمن العالمي وأمن الحلفاء. وهذا ما يدفع بالحلفاء إلى الذهاب إلى تنويع مصادر العلاقات والأمن في إعلاء واضح لمبدأ “المصلحة الوطنية أوّلاً”، وهو ما يتلخّص بعبارة “السعودية أوّلاً”.

ملاحظة أخيرة وملاحظة أساسيّة

ملاحظة أساسية: سيكون الاتفاق السعودي الإيراني بحاجة إلى وقت طويل ليطبَّق تماماً، كما أنّ محاولة تخريبه والانقلاب عليه ربّما ستكون بحاجة إلى وقت أطول وإلى جهود كبرى لا تتّصل فقط بتفاصيل الملفّات الإقليمية، بل تتعدّاها لتطال ملفّات عالمية، تبدأ من الحرب الروسية الأوكرانية، أي الحرب التي تشعل قلب أوروبا، ولا تقف عند حدود المضائق بين الصين وتايوان في آسيا.

إقرأ أيضاً: “ترابط الساحات” واتّفاق بكّين: إسألوا رفيق الحريري

ملاحظة أخيرة: بالعودة إلى مراجعة سلوك الولايات المتحدة الأميركية، ما قبل الحروب العالمية أو المحطات التي قادت إلى تغيّرات على صعيد النظام العالمي وآليّات تركيبه، يتبيّن أنّ أميركا لطالما كانت في حالة انكفاء خلال حالات تفجّر الصراعات وما قبلها، كما كانت الحال قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل الحرب العالمية الثانية، حين كانت أميركا منكفئة حتى لحظة الوصول إلى خواتيمهما. وعندئذ اختارت التدخّل لكسب الحرب وجني الثمار. هنا لحظة التدخّل قد تطول، لكن لا بدّ من انتظارها لقراءة مسار التحوّلات، بعيداً عن الاستنتاجات المستعجلة حول سقوط الأحادية القطبية، أو التراجع الأميركي والخسارة لصالح روسيا والصين. 

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…