كأنّها “مزرعة” خاصّة أورثها رئيس التيار الوطني الحرّ لمستشاريه، وما أكثرهم، ليعيثوا فيها مخالفات قانونية ومالية، ويا ليتها أنارت بيوت اللبنانيين بالكهرباء كما أنارت إعلامهم بقصص فساد لا تنتهي في وزارة الطاقة والمياه.
قصة سيزار
القصة الجديدة بتوقيع الوزير السابق سيزار أبي خليل، وقد برزت بعدما سلّط ديوان المحاسبة في تقريره الأخير الضوء على مخالفات قانونية ومالية ارتكبها أبي خليل مستكملاً مناقصة بواخر الكهرباء بمخالفات أخرى غبّ الطلب لإخفاء الصفقة المشبوهة وتزيين سوء النيّة بعقود تراضٍ عديدة تنفضح تباعاً.
آخرها عقد اتفاق رضائي مع شركة بويري سويسرا المحدودة “Poyry Switzerland Ltd” لتقديم خدمات استشارية متعلّقة بتقويم عروض لاستئجار طاقة من باخرتين تراوح قدرتهما بين 800 و1000 ميغاوات وربطهما بمعملَي دير عمار والزهراني. وذلك خلافاً للأصول المرعيّة الإجراء ومن دون إرفاق كفالة مصرفية.
وقد نفّذ “بويري” المهمّة وقدّم تقريره، وحمله أبي خليل بدوره آنذاك إلى مجلس الوزراء، قبل أن يُعرض على ديوان المحاسبة، وكأنّ الوزارة وشؤونها أملاك خاصة غير خاضعة للرقابة أو القانون.
يؤكّد ديوان المحاسبة في تقريره أنّه لم يتبيّن من مستندات الملف أنّ الإدارة قد تقيّدت بالشروط المحدّدة بالمادة 150 م.ع.، ولا سيّما شرط أن تضع الإدارة دراسة مسبقة تثبت أنّ الصفقة تتجاوز إمكانياتها
“أساس” تكشف التفاصيل
في التفاصيل التي حصل عليها “أساس”، كما هي واردة في تقرير ديوان المحاسبة الصادر بتاريخ 19/1/2023، والذي أرسله الديوان كوثيقة تبليغ (قرار قضائي) لوزارة الطاقة بتاريخ 16 آذار، أنّه بتاريخ 7/11/20019 وجّه ديوان المحاسبة المذكّرة رقم 70/2019 إلى وزارة الطاقة والمياه لطلب بعض المستندات والمعلومات المتعلّقة بالملف، الذي تمّ العبث به خلال عهد أبي خليل. ومنها كتاب الإدارة القاضي بالطلب إلى الشركة المعنيّة تنفيذ الخدمات قبل توقيع العقد، وبتاريخ 9/12/2019 ورد جواب المذكّرة.
جاء في كتاب وزيرة الطاقة والمياه في حينه، ندى البستاني، أنّ الاستشاري باشر تنفيذ خدماته بناءً على “تعليمات شفهية” من وزير الطاقة والمياه بعدما تمّ الاتفاق على بنود العقد والتأشير عليه من قبل الوزير. وبناء على طلب الوزارة قام الفريق الثاني بتنفيذ ما يتوجّب عليه من خدمات قبل توقيع العقد.
وبرّرت الوزيرة يومها مخالفات زميلها بأنّه اعتمد طريقة التراضي وفقاً للمادة 150، وأنّه سبق للوزارة أن استعانت بخدمات المكتب الاستشاري المذكور. وقد ثبت لها أنّه يتمتّع بمؤهّلات وكفاءات وقدرات وخبرات فنّية وتقنية عالية ومميّزة، وأنّه أنجز المهمّات التي كانت مطلوبة منه وموكلة إليه بنجاح كامل.
رفض ديوان المحاسبة
يؤكّد ديوان المحاسبة في تقريره أنّه لم يتبيّن من مستندات الملف أنّ الإدارة قد تقيّدت بالشروط المحدّدة بالمادة 150 م.ع.، ولا سيّما شرط أن تضع الإدارة دراسة مسبقة تثبت أنّ الصفقة تتجاوز إمكانياتها. وأكّد الديوان أنّ الملفّ لا يراعي الشروط المحدّدة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 9 تاريخ 17/5/2017 الذي نظّم أصول التعاقد سنداً للمادة المذكورة خاصة لجهة التعاقد بناء على استدراج عروض يسبقه إعلان عملية تأهيل مسبق.
ويرصد الديوان مخالفات عديدة في عقد أبي خليل المشبوه، أبرزها:
– مخالفة المادة 33 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة التي تنصّ على أنّ كلّ معاملة لا تجري عليها رقابة “الديوان” المسبقة غير نافذة ويحظر على الموظف المختصّ وضعها في التنفيذ تحت طائلة العقوبة. وكان ديوان المحاسبة قد أصدر في شهر 6 من عام 2017 قراراً قضى بإعلان عدم صلاحية ديوان المحاسبة للنظر بالمعاملة المعروضة بعدما تبيّن أنّها وُضعت موضع التنفيذ قبل عرضها على رقابة ديوان المحاسبة المسبقة، وهو ما يشكّل المخالفة المالية المنصوص عنها والمعاقَب عليها بمقتضى أحكام المادة 69 (الفقرة 3) من قانون تنظيم ديوان المحاسبة.
– مخالفة المادة 40 من القانون رقم 379 الصادر في 14/12/2001 (الضريبة على القيمة المضافة) لجهة تعيين الاستشاري “بويري سويسرا” المحدودة الذي تمّت الاستعانة به شفهياً، وهو بحكم غير المقيم وليس له ممثّل مقيم في لبنان.
– مخالفة المادة 139 من قانون المحاسبة العمومية، التي تنصّ على أن تسلُّم اللوازم والأشغال والخدمات في كلّ وزارة يكون عبر لجنة تُعيّن بقرار من المدير العام، على أن تضمّ ثلاثة موظّفين، ينتمي أحدهم إلى الوحدة التي جرى التلزيم لمصلحتها، وذلك لأنّه يجب إصدار “محضر تسلّم”، يفيد أنّ التنفيذ قد تمّ وفقاً للشروط والأصول ذات الصلة.
غسان بيضون يعترض
كلّ هذه المخالفات مرّرها أبي خليل على الرغم من أنّ المدير العام للاستثمار في حينه غسان بيضون قد لفت نظره إلى النصوص والأحكام القانونية النافذة ووجوب مراعاتها على النحو الذي حدّده القانون.
لكن دائماً “يحقّ للعوني ما لا يحقّ لغيره” في وزارة الطاقة. فأصرّ الوزير أبي خليل على مخالفة القانون، ولا سيّما عندما وصل إلى مرحلة تعيين لجنة تسلُّم خدمات الاستشاري. فخالف النصوص المتعلّقة بإدارة أو استعمال الأموال العمومية أو الأموال المودعة في الخزينة، ورفض بيضون حينها تشكيل هذه اللجنة خلافاً للقانون، وأحال مجدّداً إلى الوزير الملفّ مرفقاً بكلّ المخالفات، مؤكّداً له أن لا علاقة للمديرية العامة للاستثمار بالملفّ الذي تمّ تسلُّمه أصلاً من قبل، ولا يستوفي شروط المصالحة.
نفّذ “بويري” المهمّة وقدّم تقريره، وحمله أبي خليل بدوره آنذاك إلى مجلس الوزراء، قبل أن يُعرض على ديوان المحاسبة، وكأنّ الوزارة وشؤونها أملاك خاصة غير خاضعة للرقابة أو القانون
أصرّ أبي خليل على مخالفة القانون وأحال الملف مجدّداً إلى المدير العام للاستثمار مطالباً إيّاه باستكمال الملف وتعيين لجنة التسلُّم من دون إبطاء. فأحال بيضون الملف في اليوم نفسه إلى مصلحة الديوان للاطّلاع وإجراء اللازم وفقاً للأصول.
على الرغم من ذلك تابع الوزير مخالفاته وأصدر قراراً بتاريخ 1/10/2018 قضى بتعيين لجنة من أجل تسلُّم خدمات الاستشاري برئاسة أحمد الموسوي، مفوّض الحكومة لدى كهرباء لبنان، الذي كلّفه أبي خليل أن يحلّ مكان بيضون بعد التقاعد. وقام الوزير بتعيينه بعدما أعطى إجازة لبيضون، فمرّر للوزير مخالفاته، كما يروي بيضون في اتصال مع “أساس”.
خطوة ديوان المحاسبة
لكن ما هي الخطوة التالية؟
يُنتظر اليوم أن يستكمل ديوان المحاسبة إجراءاته ويقدّم تقريراً خاصاً بمخالفات الوزير، وأن تتمّ ملاحقة لجنة التسلُّم برئاسة الموسوي “الذي شارك بالمخالفة مع علمه الصريح أنّه مطلوب منه تسلُّم شيء لم يطّلع عليه، وهي خدمات بالأصل قد تسلّمها الوزير من قبل. وعلى الرغم من ذلك تسلّم ليمرّر للوزير استكمال مخالفته”، وفق ما قاله بيضون الذي يوضح أنّ هذه ليست المصالحة الأولى التي تترتّب عنها مخالفات من هذا النوع.
ويفترض أن تكون المصالحة “تحت القانون” عندما يتمّ تنفيذ معاملة لها آثار أو نتائج مالية من دون استكمال الشروط الإدارية، فتعقد الوزارة صفقة بشكل مخالف للقانون وتقول إنّه “لمّا كانت الدولة والإدارة لا يحقّ لهما أن تثريا على حساب الغير، فنحن مضطرّون إلى أن ندفع للشركة مقابل عملها، ونريد أن يتسلّم أحدهم ليؤكّد أنّ الشركة قدّمت الخدمات”، وليبرّروا الدفع. وهذا يستوجب ملاحقة قانونية. لأنّ المعاملة قد وُضِعت قيد التنفيذ قبل توافر شروطها، وهذا يخالف القانون. والمخالفون أبرزهم الوزير ولجنة التسلُّم.
يفنّد بيضون المخالفات في عملية التسليم هذه، ويؤكّد أنّ وزير الطاقة حينذاك سيزار أبي خليل قد خالف بشكل صريح أحكام المادة 139 من قانون المحاسبة العمومية، وقرّر تعيين لجنة تتسلُّم خدمات الاستشاري، فيما المادة 139 تنصّ بشكل واضح على أنّ لجنة التسلُّم تُعيَّن بقرار من المدير العام، وهو ما يسمّى في القانون الإداري “اغتصاب السلطة”، أي عندما تتعدّى سلطة عليا على سلطة دنيا أو العكس.
إقرأ أيضاً: المطار الجديد: هكذا طارت صفقة المليار
إلى ذلك جرت عملية التسلُّم خلافاً للأصول، إذ أفاد رئيس لجنة التسلُّم أحمد الموسوي، الذي عيّنه الوزير لهذه الغاية، بموجب محضر رقم 1 تاريخ 17/10/2018، أنّ لجنة تقويم العروض هي من تسلَّم من الاستشاري التقرير النهائي للمرحلة الأولى. بينما لم يتضمّن محضر التسلُّم المذكور ما يفيد أنّ لجنة التسلُّم قد تسلّمت بالفعل أيّ خدمات من الاستشاري، ولا سيما التقرير المذكور، أو على الأقلّ اطّلعت عليه، وهو ما يجعل التسلُّم الذي قامت به اللجنة تسلُّماً نظرياً وغير واقعي، خصوصاً أنّه حصل بعد انقضاء أكثر من سنة على تقديم الخدمات المزعومة من قبل الاستشاري.
هي فضيحة واحدة من سلسلة فضائح وتوضح بطريقة أو بأخرى أسباب الاستماتة العونية في كلّ تشكيلة وزارية جديدة لإبقاء الوصاية البرتقالية على وزارة الطاقة التي تبيض ذهباً فاسداً بدلاً من الكهرباء!