يُغالي الطرفان في توصيف واقعِ ومستقبلِ لغة الصواريخ التي اندلعت فجأة بين إسرائيل من جهة، ولُبنان وسورية من جهة ثانية. فالمحور الذي تقوده إيران يؤكّد أنَّ إسرائيل باتت أعجز من أن تشنّ حرباً لأنَّ في ذلك نهايتها الحتميّة، وقادة إسرائيل يستمرّون في غرورِهم التقليديّ مؤكّدين أنّ جيشَهم ما زال الأقدر على حسم المعركة وأنّ ضبط النفس لا يعني ضُعفاً، لا بل يتباهون بقدرتهم على إزالة إيران من الوجود لو استخدمت سلاحاً نوويّاً.
لبنان والفاتورة الفلسطينية
أمّا في لُبنان فينقسم الناس، على جري عادتهم منذ فجر الاستقلال، بين رافضٍ استخدام لُبنان منصّة لإطلاق الصواريخ مُتناسياً عمداً أو انطلاقاً من أيديولوجية ثابتة أنّ إسرائيل هي أسوأ وآخر نظام عنصري في التاريخ الحديث، وأنّها تسحق عظامَ شعبٍ يُريد فقط أن يعيش بكرامة على أرضه، وأنّها انتهكت لُبنان آلاف المرّات، وبين مُهلّل لهذه الصواريخ، متناسياً عمداً أيضاً أنّ لُبنان دفع تاريخيّاً ثمناً باهظاً حين انفلتَ السلاحُ من عقاله، وحين كادت المنظّمات الفلسطينية الموزّعة على المحاور الإقليميّة تتحوّل إلى دولةٍ داخل الدولة، بدعمٍ كبيرٍ من الحركة الوطنيّة، ومالٍ وفيرٍ من دولٍ استخدمتها كما استخدمت الكثير من اللُبنانيّين مطايا وبيادق لمشاريع أخرى لا علاقة لها بالصراع العربي الإسرائيلي. وحين اجتاحت إسرائيل لُبنان، ظهرت الخيانات في أكثر من مكان، ووصل العدوّ الإسرائيلي إلى قلب بيروت.
إسرائيل تُريد ثمناً في الجبهة الجنوبيّة لسوريا، ذلك أنّ انتهاء الحرب السوريّة مع بقاء إيران والحزب عند حدودها من جانبَي الجولان والجنوب اللبنانيّ
إسرائيل دولة احتلال
كانت إسرائيل وما زالت وستبقى دولة احتلال، وهي التي نسفت كلّ محاولات السلام، من مدريد وأوسلو وواي بلانتايشن، إلى القمّة العربيّة في بيروت. وهي التي ضاعفت المستعمرات أكثر من 700 مرّة منذ أوسلو، وهي التي تهوّد البشر والشجر والتاريخ والجغرافيا، وهي التي تمنع المسلمين من الصلاة في مسجدهم، وهي التي لم تُبقِ من المسيحيين في أرض رسول السلام السيّد المسيح سوى 2 في المئة في القدس (أي نحو 4 آلاف مسيحي) مقابل 25 في المئة عام 1948 (يمكن مراجعة كتاب “التصفية العرقية في فلسطين” للكاتب ايلان بابيه، أو كتاب “إسرائيل-فلسطين” للكاتب آلان غريش، أو كتاب “إحكام القبضة على إسرائيل… نتانياهو ونهاية الحلم الصهيوني” لجان بيار فيليو، أو كتب شارل انديرلان، فكلّها تشرح ماذا حصل من تصفية منذ عام 1948 حتّى اليوم).
اللبناني المدمّر والسوري المقهور
لن تفهم إسرائيل بسبب أيديولوجيتها، التي تزداد تطرّفاً وتديّناً، أنّ الشعب الفلسطينيّ لن يكلّ ولن يملّ، وأنّ كلّ جيلٍ فيه سيكون أكثر صلابةً ووعياً من الجيل الذي سبق، وأنّه بلا دولة فلسطينية غير مقطّعة الأوصال، وحرّة، ومستقلّة، ولها مطاراتها ومرافئها، لن يكون سلامٌ ولن تستقرّ إسرائيل، مهما طال الزمن.
لكن بالمقابل يحقّ للُّبناني المقهور والفقير والمدمّر، تماماً كما يحقّ للسوري المقهور والفقير والمدمّر، أن يسألا عن توقيت ومآلات التدهور الأمني الحالي وتبادل القصف عبر الحدود.
وهنا تبرز الاحتمالات والمبرّرات التالية:
– يقول أهل المحور الذي تقوده إيران إنّ الماضي مضى، وإنّ على إسرائيل أن تفهم اليوم أنّ ثمّة توحيداً للجبهات، بحيث تمتدّ من داخل فلسطين حتى إيران مروراً بلبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وإنّ أيّ أذى يلحق بأحد الأطراف سيُردّ عليه بحزمٍ. وهذا يعني أنّ تفعيل لغة الصواريخ التي تزامنت مع التهاب الوضع الفلسطينيّ الداخلي على أكثر من جبهة في فلسطين، جاء في سياق الردّ على تكثيف إسرائيل عدوانها على الأراضي السورية مستهدفة قوات إيرانية ثمّ الجيش السوري، وجاء أيضاً نُصرةً للفلسطينيّين في الداخل.
– بالمقابل يقول قادة إسرائيل ومناصروها إنّ وضعَهم الداخليّ المضطرب (بسبب محاولات نتانياهو السيطرة على القضاء، وأيضاً بسبب تنامي ضغوط الأحزاب الدينيّة والمتطرّفة) لن يؤثّر على قدرتهم على ضرب أعدائهم حيثما أرادوا، وإنّهم يستهدفون صواريخ إيران في سوريا، العابرة للحدود صوب لُبنان، أو مصانع صواريخها في سوريا.
التبريران قابلان للنقاش، لكن لو ابتعدنا قليلاً عن صخبِ الجبهات حاليّاً، نستنتج التالي:
– أوّلاً، أنّ تسعير هذه الجبهات جاء بعد حدثَين سياسيَّين كبيرين: الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية الصين، والانفتاح العربي “المتسارع” على سورية والذي يشي بنهاية قريبة للحرب السوريّة، خصوصاً إذا ما تُوِّجت التفاهمات الإقليميّة بمصالحة بين سوريا وتركيا.
إسرائيل تُريد ثمناً جنوب سوريا
هذا يعني أنّ إسرائيل تُريد ثمناً في الجبهة الجنوبيّة لسوريا، ذلك أنّ انتهاء الحرب السوريّة مع بقاء إيران والحزب عند حدودها من جانبَي الجولان والجنوب اللبنانيّ، أمرٌ بالغ الخطورة عليها، ولذلك ليس في تصعيدِها رغبةٌ بالحرب الواسعة، وإنّما بمحاولةِ فرضِ تفاهماتٍ تتعلّق بالمنطقة الجنوبيّة التي كانت روسيا في خلال السنوات الماضية قد تولّت أمرها، وقدّمت ضماناتٍ كثيرة لإسرائيل بإبعاد إيران والحزب عنها (هل سقطت هذه الضمانات بسبب استياء فلاديمير بوتين من انحياز إسرائيل إلى أوكرانيا؟)
– ثانياً، أنّ هذه الرغبة الإسرائيلية تتّفق مع رغباتِ بعض العرب، لجهة ضرورة خروج إيران والحزب من سوريا كشرطٍ أساسيٍّ للانخراط في ورشة إعادة الإعمار ووضع حدٍّ للحرب، وعودة سوريا، بلا تنازلات سياسيّة، إلى جامعة الدول العربيّة.
– ثالثاً، أنّ التصعيد الإسرائيلي المضبوط حتّى الآن بخطوط حُمر، ينسجم مع الرغبة الأميركيّة بعدمِ تعديل الوضع العسكري في الجنوب السوري، لكن أيضاً في مناطق سيطرة الكُرد (قسد) حيث توجد الثروات الزراعية والنفطيّة، خصوصاً بعدما ذهب عددٌ من التحليلات إلى القول بأنّ روسيا قد تُعطي ضوءاً أخضر لإيران والحزب والجيش السوري للبدء بشنّ هجماتٍ على القواعد الأميركيّة في سوريا لإخراجها بالقوّة، وفتح جبهةٍ جديدةٍ ضدّ واشنطن بعيداً عن أوكرانيا.
لا مصلحة لأحد بالانزلاق إلى الحرب
لا توجد مصلحة لأيّ طرفٍ حتّى الآن في الانزلاق صوب حربٍ واسعة، فمن جهة إيران من الصعب أن يتخيّل المرء انخراط الحرس الثوري في حرب مباشرة مع إسرائيل في الوقت الراهن، بعدما عزّزت القيادة الإيرانيّة تحالفها الاستراتيجي مع الصين (ذات العلاقة القوية أيضاً مع إسرائيل) وروسيا، وبعدما فتحت صفحةً جديدةً مع السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة (الراغبتين بخروج القوات الإيرانية والحزب من سوريا)، وخفّفت بذلك الضغوط الداخليّة التي أحدثتها التظاهرات المناهضة للسُلطة منذ شهور طويلة.
ومن جهة إسرائيل، من الصعب التفكير في مغامرة عسكريّة واسعة حاليّاً بلا دعمٍ داخليّ من جهة، وبلا غطاء أطلسيّ من جهة ثانية نظراً لانشغال الحلف الغربيّ بالحرب الأوكرانية وبالإعداد رُبّما لحربٍ أخرى مع الصين في تايوان. يُضاف إلى ذلك أنّ إسرائيل ما عادت قادرة اليوم على توقّع مآلات حربٍ تُدرك مُسبقاً أنّها قد تكون تدميريّة على جانبَي الحدود.
إذاً الأرجح عدم تطوّر الأمور في الخارج أكثر، مقابل استمرار هبّة الشعب الفلسطيني على نحو أوسع. والمُرجّح أيضاً أن تستمرّ استراتيجية “المعارك بين الحروب” لفترة غير قصيرة.
هل هذا يعني أنّ الحروب بالوكالة بين إيران وإسرائيل ستبقى منضبطة في إطار الفعل وردّ الفعل داخل الخطوط الحُمر؟ الكاتب الفرنسي أورين شوفيل يؤكّد في كتابه “حربُ الظلال بين إسرائيل وإيران” أنّ الجيش الإسرائيلي يستعدّ منذ سنوات لحرب ضدّ الحزب أو لحرب شاملة ضدّ كلّ المحور، وأنّه صحّح الكثيرَ من أخطاء حرب 2006 لجهة المعلومات الاستخباريّة، والتواصل بين الجيوش الإسرائيلية، وكذلك لجهةِ عمليات إجلاء سكان المناطق الشمالية، وأنّه عاجلاً أو آجلاً سيجد أنّ الحرب، على الرغم من كلّ كوارثها، ستكون أقلّ كلفة من ترك إيران تجنّد آلاف المقاتلين الشيعة والسُّنّة عند حدودها مع سوريا ولُبنان، أو تركها تُنتج قنبلة نوويّة.
كانت إسرائيل وما زالت وستبقى دولة احتلال، وهي التي نسفت كلّ محاولات السلام
سوريا بعد اليمن؟
قال ذلك قبل أن يدخل ميدانَ الحرب سلاحٌ جديدٌ وخطيرٌ يتمثّل في المسيّرات التي أضافتها إيران إلى صواريخها، في محاولة لسدّ النقص في سلاح الجوّ الذي ما زالت إسرائيل متفوّقة فيه بقوّة.
انطلاقاً ممّا تقدّم، يبدو أنّ المنطقة تستعيد أجواء سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من تحريك الحدود، وأفعالٍ وردود أفعال، واغتيالات واختراقات عسكرية أو سيبرانيّة، وأمّا الحرب الواسعة فهي مستبعدة إلّا إذا انزلقت الأمور بالصدفة نحوها، واخترق أحد الأطراف الخطوط الحمر، وهي الخطوط التي قال الكاتب الفرنسي إنّها قد تكون عبر اغتيال شخصيّة كبيرة مؤثّرة أو عبر حصول الحزب على سلاح خطير بكميّة كبيرة، أو تصنيع إيران قنبلة نوويّة.
لذلك يُمكن القول إنّ الطرفين يُغاليان بتوصيف الواقع والمستقبل، لأنّ أيّ حربٍ واسعةٍ تحتاج إلى قراراتٍ إقليمية ودوليّة كُبرى، ولا مصلحة لأحد في الوقت الراهن بها نظراً لكوارثيّتها الحتميّة. وأمّا الحتميّ فهو استمرار الحرب بالوكالة بين إيران وإسرائيل، حتّى لو تفاقمت الاختراقات داخل أراضيهما، لكن لو تأكّدت إسرائيل أنّ طهران ستُنتج قنبلة نوويّة، فحينها فقط قد ينقلب المشهد، بحيث تقبل إسرئيل بالأمر الواقع، أو تُغامر بحرب واسعة لا يعرف غير الله كيف تنتهي.
إقرأ أيضاً: الحزب يحتلّ عقول اللبنانيّين لا وطنهم وحسب..
يبقى حاليّاً السؤال: هل تسعير الوضع عند الجبهتين الجنوبيّتين لسورية ولبنان سيُساهم في تصعيد الوضع العسكري، أم يُسرّع خطوات إعلان إيران والحزب نهاية مهمّتهما في الأراضي السورية لصالح انخراط العرب في إعادة الإعمار والانفراج الاقتصادي الذي طال انتظارُه؟ لننتظر ونرَ، فالاتفاق السعودي-الإيراني سيشمل الكثير من الملفّات، وفي مقدّمها حتماً اليمن وسورية.
*ينشر بالتزامن مع موقع “لعبة الأمم”