ما من مرشّح تنطبق عليه شروط الحزب لتبوؤ سدّة الرئاسة الأولى أكثر من إسماعيل هنية. حسناً فلننتخبه رئيساً للجمهورية ما دام يُمسِك بأعنّة قرار الحرب والسلم نيابةً عن الدولة اللبنانية. الفارق المكاني بين حارة حريك والقصر الجمهوري قليل جدّاً.
إذاً لندعُهُ إلى أن يقيم في القصر الجمهوري ببعبدا ما دام هو الضمانة المُثلى التي طلبها الأمين العام للحزب: “رئيس لا يطعن في الظهر”. وما من أحد يوفّر ذلك بالقدر الذي يستطيعه هنيّة. فالرجل على مثال “أبي نضال” قائد حركة فتح ـ المجلس الثوري “بندقية للإيجار”.
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وقبل أن يحطّ رحاله في الضاحية الجنوبية لبيروت، تنقّل بين طهران ودمشق خائضاً مختبر الوفاء. أعلن توبته عن خروجه على النظام السوري منذ زمن. وليثبت هذين، التوبة والوفاء، ما من مكان أرحب من لبنان وجنوبه.
يسلك “حزب الله” مسالك مبدأ الإستبلشمينت الأميركي عن “الغموض البنّاء”. فهو يقاتل عبر “حماس” على توقيت فلسطيني حامٍ، وبالإنابة عن إيران
جمهورية “طائر الفينيق” فقدت منذ زمن مديد معنى الدولة. التبديد هذا باشرته القوى اللبنانية كلّها في الجمهورية الأولى عندما استدعت الجماعات المتقاتلة، يميناً ويساراً ومسلمين ومسيحيين، إسرائيل وسوريا والمقاومة الفلسطينية. في الجمهورية الثانية تولّى هذه المهمّة الحزب بإقامة دويلته.
في الجمهوريّتين اعتقدت هذه القوى عن غباء وهطل سياسيَّين أنّ مؤسسة الدولة هي التي تتواءم مع القوى، بينما يقضي علم السياسة بتكييف القوى مع الدولة، وبتجيير هذه القوى فاعليّتها لأجل الدولة. هذا لم يحصل لا ماضياً ولا حاضراً، علماً أنّ حاجة اللبنانيين إلى دولة هي مثل حاجة الصحراء إلى ماء.
استعادة الماضي
يسلك الحزب مسالك مبدأ الإستبلشمينت الأميركي عن “الغموض البنّاء”. فهو يقاتل عبر “حماس” على توقيت فلسطيني حامٍ، وبالإنابة عن إيران. يتأرجح بين الدويلة والدولة، كما فعل في الترسيم البحري مع فلسطين المحتلّة. طوراً يطلّ علينا بوصفه قوّة عسكرية ـ أمنية، وطوراً آخر يظهر بملابس مدنية ليمارس السياسة: هو في الحكومة والمجلس النيابي، لكنّه خارج الدولة وعليها. يرفض أن يكون هو المشكلة، لكنّه لا يترك كبيرة وصغيرة إلا ليبرهن أنّه الحلّ.
غفل “الحزب” عن أنّ استخدامه حركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي يبعث في عقول اللبنانيين جميعاً أشباح ماضي الوجود الفلسطيني المسلّح وحلوله مكان الدولة، الذي دفع لبنانيّين كُثراً على مساحة لبنان إلى أن يستقبلوا “الاحتلال الإسرائيلي” بنثر الأرزّ على جنوده وآليّاته.
ما فعلته “حماس” بمعرفة “الحزب” وتسليحه وتمويله من إطلاق صواريخ من الجنوب لم يكن بحال من الأحوال دفعاً للقضية الفلسطينية، بقدر ما كان تفريغاً لمشروعيّتها. هو يشبه تماماً توقيع اتفاقية القاهرة التي جعلت من السلاح الفلسطيني مُقرّراً. الاتفاقية المشؤومة نقلت لبنان من “دولة مساندة” إلى “دولة مواجهة”، فحمّلت البلد حينذاك ولاحقاً ما لا يحتمل.
الآن يكرّر “الحزب” و”حماس” ماضياً مقيتاً. وهذا يعني في ما يعني مزيداً من السلاح مع غياب السياسة، وارتفاعاً لحاصل الدويلة على الدولة، وعمليّات تستجرّ ردوداً إسرائيلية مُدمّرة تُضاف إلى انهيار اقتصادي في ظلّ انقسام أهليّ خَبرنا نتائجه وويلاته في سبعينيات القرن الماضي.
ما حصل في الجنوب لا يعني بحال من الأحوال أنّ مئات الملايين من المسلمين جاهزون لبذل الدماء، وأنّ المسجد الأقصى ليس وحيداً، على ما عقّب رئيس المجلس التنفيذي للحزب هاشم صفي الدين إثر إطلاق الصواريخ. ما حصل يعني تورّطاً كاملاً للبنان الذي سقطت فيه فكرة الدولة وارتفع فيه الحضور الإيراني بغرض الاستثمار في فشل السلطة الفلسطينية والعنف الصهيوني الذي لا يني يتصاعد ويرفض الإقرار بحقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته.
بحسب صفي الدين: تسقط الدول وحدودها متى تعلّق الأمر بمقدّس إسلامي. في عقله لا يوجد غير المسلمين على مساحة المشرق كلّه، فيما المسيحيون يتوقون للحجّ إلى كنيسة المهد. وهذا لا يعني غير توريط لبنان مُجدّداً في لحظة لم تفقد فيها القضية الفلسطينية نُبلها ومشروعيّتها، إنّما فقدت “مركزيّتها” جرّاء توجُّه العالم، ومنه “الإسلامي”، إلى الاستثمار في مؤسّسة الدولة والحداثة والاقتصادات الصلبة.
ثلاثيّ “حماس” و”الجهاد” و”الحزب” يشكّل عبئاً على لبنان وفلسطين. ذلك أنّ مغامراته العسكرية تُضعف المعنى التحرّري للنضال الفلسطيني داخل الأراضي الفلسطينية
استراتيجية التورُّط والتوريط
حوّل “الحزب” لبنان إلى فندق لـ “حماس” بعدما جابت الأخيرة دمشق والدوحة وأنقرة. وكذلك لـ”الجهاد الإسلامي” المُقيمة أصلاً في دمشق. فعل ذلك بعدما ترنّحت سرديّته عن “المقاومة” إثر الترسيم البحري.
مهّد لذلك أمينه العامّ يوم أطلّ أخيراً محذّراً إسرائيل من استهداف أيّ “مُقيم”. فإلى إقامة هنيّة التي باشرها منذ زيارته عام 2020 كان عندنا نائبه صالح العاروري مع قياديَّين آخرَين هما خليل الحية وصالح جبارين الذين قادوا الانقلاب مع مسؤول الحركة في غزّة يحيى السنوار لإعادتها إلى حضنَيْ سوريا وإيران. قبلهم أمضى رئيس حركة الجهاد رمضان شلّح أيامه الأخيرة في الضاحية الجنوبية قبل أن يخلفه زياد نخالة المقيم أصلاً في لبنان.
حضور “حماس الإسلامية” في الضاحية ليس جديداً، فقد بدأ يتنامى منذ نجاح “الحزب” في إصلاح علاقتها مع دمشق. الجديد كان في انبعاث وجودها المسلّح، منذ وقع انفجار في مخيّم برج الشمالي في كانون الأول من عام 2021 وسقط فيه حمزة شاهين الذي نعته الحركة بوصفه “شهيد مهمّة جهادية” على الرغم من إنكارها علاقتها بالانفجار.
احتضان “الحزب” لـ”حماس” و”الجهاد” في لبنان لا يعني غير استعارته الجزئية لاستراتيجية التوريط التي ابتكرها خليل الوزير المعروف بـ “أبي جهاد”، القيادي في “منظمة التحرير الفلسطينية”. جوهر الاستراتيجية يقوم على معادلة: نضرب من وراء حدود “دول الطوق” فتردّ إسرائيل في داخل هذه الدول التي ستضطرّ إلى الردّ، وبالتالي “التورّط”، فكان ما كان من احتلال بيروت.
الأردن نجا من ذلك بإخراج منظمة التحرير منه. سوريا مع حافظ الأسد كانت أبرع بعدما أقامت “سِلماً مُقنّعاً” مع إسرائيل بعد عام 1973 واستثمرت في الشعارات. سياسة “التورّط والتوريط” سقطت أساساً منذ إقرار القرار 242 المتعلّق بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتُلّت عام 1967، ثمّ قبول الرئيس المصري جمال عبد الناصر بمبادرة وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك المعروفة بـ “مبادرة (وليام) روجرز” عام 1969. هذان القرار والمبادرة أسقطا “نظرية أبي جهاد”، وأعادا للدول اعتبار السيادة ومعنى الحدود. وحده لبنان بقي يُغرّد خارج السرب متحمّلاً وحده نتائج الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
الحزب إذ يستعيد هذه الاستراتيجية فإنّه يُهمل المضمون السياسي للتجارب السابقة، معطوفةً على مراجعات اليسار اللبناني النقديّة و”وهم” تحقيق التغيير الذي أرادته عبر “الاستقواء” بالسلاح الفلسطيني. كلّ هذا يجعل من لبنان مجرّد جغرافيا لصراعات وحروب لا يُراد لها أن تنتهي إلا بعد تحقيق كلّ مصالح “محور الممانعة” الذي لا يوجد فيه ما يُغري بالعيش.
عبء “حماس” و”الجهاد” و”الحزب” على لبنان وفلسطين
ثلاثيّ “حماس” و”الجهاد” و”الحزب” يشكّل عبئاً على لبنان وفلسطين. ذلك أنّ مغامراته العسكرية تُضعف المعنى التحرّري للنضال الفلسطيني داخل الأراضي الفلسطينية. مقامرات هذا الثلاثي تُضعف أيضاً الجدوى السياسية التي استدرك معناها “أبو جهاد” فانطلقت الانتفاضة الأولى غير المسلّحة التي أجبرت العالم على الاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني.
إقرأ أيضاً: بيروت: إفطار قاآني – هنيّة على “مدافع القليْلة”
الرصيد الحربي الذي يراكمه هذا الثلاثي يسلب من الفلسطينيين الرصيد الأخلاقي والسياسي الذي راكموه منذ الانتفاضة الأولى. والرصيد نفسه لا يجعل من لبنان وفلسطين سوى ساحة حرب مفتوحة، وفي أحسن الأحوال سلعة للمقايضة في أسواق طهران وتل أبيب وواشنطن. أكثر من ذلك، فهذا الرصيد يبدّد مقاومة الفلسطينيين في جنين والضفّة الغربية والقدس ما دام التفاوض على الحقّ الفلسطيني محلّ مقايضة في عواصم أخرى.
ما دام “الحزب” قادراً على أن يفعل ما يشاء وساعة يريد، فهو سيستمرّ من دون مُحاسبة. وبالتعريف عن نفسه هو “حزب الله” وليس “الله”، بمعنى أن لا حقّ له ولا ينطبق عليه الحديث النبوي “قدّر الله وما شاء فعل”.