أنجز رئيس تيار المردة سليمان فرنجية صياغة برنامجه الانتخابي بمختلف عناوينه. جهات متعددة عكفت على مساندته في ذلك. وعلى هذا الأساس عمل فرنجية على تثبيت ترشيحه الذي لم يعلنه حتى الآن، لكنه يتحرك سياسياً في سبيل تكريس هذا الترشيح والتقدم خطوات إلى الأمام، وهو ما فعله خلال زيارته الأخيرة لباريس التي يعتبر أنها الانتقال خطوة للأمام فيما ينظر إليها حلفاؤه بنظرة التفاؤل، لا سيما أن ما جرى تقديمه من ضمانات يعني إبقاء الباب مفتوحاً مع السعوديين على التفاوض حول وصول الرجل إلى الرئاسة. الضمانات التي قدمها فرنجية مندرجة في العناوين العامة والعريضة والتفصيلية لبرنامجه الانتخابي، والذي يمكن تصنيفه في سياق ثلاثة مجالات أساسية.
المجال الاول: سياسي، وفيه تتكامل رؤية فرنجية مع رئيس مجلس النواب نبيه بري إذ ينطلق من الحرص على الوحدة الداخلية والحفاظ على اتفاق الطائف، وتوفير الاستقرار والسلم الأهلي، بالإضافة إلى تحسين العلاقات مع الدول العربية.
المجال الثاني: استراتيجي، ينطلق من التنسيق مع الحزب بناء على الثقة التي يحظى بها الرجل من الحزب، وبالتالي فإن ما سيرد في برنامجه حيال الاستراتيجية الدفاعية وضبط الحدود، والعلاقة مع سوريا والتهدئة مع الدول العربية هو عبارة عن تفويض من قبل الحزب لحليفه.
مصادر متابعة تؤكد بأن الموقف السعودي كان واضحاً وحاسماً على الطاولة، وقد حصل معه تفاعل أميركي وقطري بدون معارضة مصرية
المجال الثالث: اقتصادي اجتماعي مالي، وفيه مساع متعددة من قبل فريق فرنجية وبالتنسيق مع الفرنسيين الذين اطلعوا على هذه الرؤية أو الخطة وكان لهم رأي في ذلك، انطلاقاً من ضرورة الوصول إلى اتفاق مع الجهات المانحة لجهة الإصلاحات المطلوبة والإجراءات التي يفترض أن تتخذ.
ضمانات فرنجية
بالنسبة إلى الضمانات التي قدمها فرنجية في باريس والتي أصبحت معروفة وفيها تفاصيل متعددة حول آلية تشكيل الحكومة وحجب الثلث المعطل عن فريق لوحده، بالإضافة إلى الاستراتيجية الدفاعية وضبط الحدود مع سوريا والبحث في ملف إعادة اللاجئين، فهي كانت محط ترحيب فرنسي واطمئنان. ما تبلغه فرنجية من المسؤولين الفرنسيين هو أنه أحد أبرز المرشحين للرئاسة على الرغم من أن باريس عقدت لقاءات مع مرشحين آخرين. لكن مسار العمل على تبني فرنجية كمرشح رئاسي يعود إلى أكثر من خمسة أشهر. في زيارته الأخيرة لباريس عرّج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على غرفة الاجتماع بين فرنجية وباتريك دوريل، وحصل سلام بين الرجلين. بالمناسبة، لم يكن هذا اللقاء الأول بين ماكرون وفرنجية. بل عقد لقاء بينهما في الخريف الفائت خلال زيارة أجراها رئيس تيار المردة لباريس.
حاولت فرنسا تثبيت نظرية “المقايضة” بين فرنجية لرئاسة الجمهورية ونواف سلام لرئاسة الحكومة قبل خمسة أشهر أيضاً، وحاول الفرنسيون طرحها بصيغة سؤال على السعوديين الذين رفضوا ذلك بشكل كامل. فيما بعد تحول الطرح من سؤال فرنسي مبني على نقل موقف الثنائي الشيعي إلى تبنّي فرنسي لهذه الصيغة، ما أحدث اختلافاً بين الفرنسيين والسعوديين، وقد تعمّق الخلاف بعد تغيير الفرنسيين لموقفهم والخروج عن المواصفات التي جرى الحديث عنها في الاجتماع الخماسي الذي عقد في العاصمة الفرنسية يوم السادس من شباط 2023.
خلال الاجتماع الخماسي، وبخلاف كل التحليلات التي تشير إلى أن المسؤول السعودي نزار العلولا هدد بالانسحاب من الاجتماع، فإن مصادر متابعة تؤكد بأن الموقف السعودي كان واضحاً وحاسماً على الطاولة، وقد حصل معه تفاعل أميركي وقطري بدون معارضة مصرية. إنما كان الوفد المصري مستمعاً على الرغم من أن باريس حاولت استمالة الموقف المصري إلى جانبها. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن السفير السعودي وليد البخاري لم يكن مشاركاً في هذا الاجتماع الذي حصل فيه توافق بين الدول الخمس على مواصفات تتركز حول ضرورة انتخاب شخصية غير محسوبة سياسياً على أي فريق ولا تشكل استفزازاً لأحد ولا غلبة لطرف على آخر. وبمعنى أوضح فإن هذه المواصفات وضعت لأجل تجنّب خيار فرنجية. إلا أن الفرنسيين رفضوا إصدار البيان، وتغيير موقفهم فيما بعد إلى التمسك بخيار رئيس تيار المردة هو أبرز الدلائل على السبب الذي حال دون إصدار البيان.
بالضمانات التي قدمها فرنجية في باريس والتي أصبحت معروفة وفيها تفاصيل متعددة حول آلية تشكيل الحكومة وحجب الثلث المعطل عن فريق لوحده
تنسيق فرنسي شيعي
بعد شهر بالتمام والكمال أعلن الأمين العام للحزب تبني ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. جاء موقف نصر الله عقب موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري بالإعلان عن ترشيح فرنجية. الظرف والتوقيت يشيران إلى التنسيق المستمر بين الثنائي الشيعي من جهة وفرنسا من جهة أخرى، وتؤكد مصادر متابعة أنه قبل ترشيح فرنجية تلقى رئيس مجلس النواب نبيه بري اتصالين هاتفيين من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جرى خلالهما التنسيق لأجل الإعلان عن هذه الخطوة. وتشير المصادر إلى أن برّي لم يعلن ترشيح فرنجية إلا بعد أن ملأ يده مما لديه، وأما الاستعجال فكان لسببين أساسيين، الاول هذا التنسيق مع باريس، والثاني هو ما تبلغه بري وحزب الله حيال التقدم الذي تحققه المفاوضات السعودية الإيرانية، ولذلك بدا موقف بري مفاجئاً للكثيرين ووصل الأمر بالبعض إلى وصف خطوته بأنها جاءت بدون التنسيق مع فرنجية. واستمر التنسيق بين الجانبين الفرنسي والثنائي الشيعي من خلال الزيارات المتكررة التي أجرتها السفيرة الفرنسية لعين التينة أو الضاحية الجنوبية بعد جولة السفراء الخمسة على المسؤولين لوضعهم في نتائج الاجتماع.
قبيل مغادرته إلى باريس، التقى فرنجية بوفد من الحزب، هو نفسه الوفد الذي التقاه بعد عودته، وتحديداً مساء الإثنين 3 نيسان، اي المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل ورئيس وحدة الارتباط والتنسيق. قبل الزيارة حصل تنسيق وتفاهم على النقاط والضمانات التي سيقدمها فرنجية. وبعد عودته وضع فرنجية الحزب في صورة نتائج اللقاء، وأبرزها هو السعي للوصول إلى إيجاد أرضية مسيحية مؤاتية لانتخابه.
عملياً، استبدال العلولا يفترض بالفرنسيين إرسال الضمانات التي قدمها فرنجية إلى السعوديين بانتظار جوابهم. لكن المسؤولين الفرنسيين يعلمون أن الموقف السعودي ثابت لجهة عدم الدخول في تفاصيل الأسماء والتشديد على مسألة المواصفات. هنا ايضاً، تبرز محاولات فرنسية للالتفاف على الموقف السعودي وعلى المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا المسؤول عن الملف. لم يخف باتريك دوريل غضبه من العلولا بسبب تصلبه في موقفه. لذلك كانت هناك محاولة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في القفز فوق اللجنة السعودية التي تتابع الملف والاتصال بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمطالبته بتسهيل انتخاب فرنجية، وهو ما رفضه الأمير الذي رفض الدخول في التفاصيل وترك الأمر لدى اللجنة المكلفة بمتابعة الملف برئاسة العلولا. إثر فشل ماكرون بذلك، تستمر محاولة الفرنسيين في الالتفاف على العلولا، وقد بلغ الأمر بمسؤولين فرنسيين عبّروا أمام شخصيات لبنانية وغير لبنانية بأنهم يرغبون لو يتم استبدال العلولا بشخصية أخرى أكثر ليونة.
بين مؤيّد ومعارض
لا تتوقف المحاولات الفرنسية عند هذا الحد، إنما كبير مستشاري ماكرون السفير السابق إيمانويل بون هو أكثر المتحمسين لسليمان فرنجية، وهو الذي كان سفيراً في لبنان عندما أقدم الحريري على ترشيح فرنجية في عام 2015. يحاول بون الالتفاف على الموقف المتصلب للعلولا من خلال السعي إلى فتح قنوات تواصل مع مسؤولين سعوديين آخرين على معرفة بهم في محاولة لتغيير الموقف السعودي.
إقرأ أيضاً: فرنسا تتخبّط: سياسة خارجية أم مصالح تجارية؟
في موازاة الموقف الفرنسي المتمسك بخيار فرنجية، برز التحرك القطري على الساحة اللبنانية، وسط معلومات تؤكد بأن الدوحة على تنسيق كامل مع المملكة العربية السعودية. وقد ظهر التنسيق والتكامل في اجتماع باريس الخماسي. تشير مصادر متابعة للجولة الاستطلاعية التي يقوم بها وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية، بالإضافة إلى المواقف القليلة التي يطلقها تشير إلى هذا التكامل، خصوصاً حول فكرة المواصفات لا الأشخاص ولا الأسماء. تلك الجولة من شأنها أن تعمل على استجماع مواقف المسؤولين اللبنانيين، بالإضافة إلى تثبيت الرؤية الخليجية لحل الأزمة اللبنانية، كما أن قطر وانطلاقاً من قدرتها على التواصل مع جميع القوى في لبنان، فهي الطرف الأكثر قدرة على التأكد من جدية الضمانات والتنازلات التي يمكن تقديمها.