تخفيض إنتاج النفط: بايدن اقتنع بمقولة “دع الأمر للسعوديّين”

مدة القراءة 6 د

كانت كل الأجواء تشير إلى أن السوق النفطية ستظل بعيدة عن المفاجآت، وبأن اجتماع “أوبك بلاس” الإثنين الفائت لن يحمل جديداً.
لكن المفاجأة أتت مساء الأحد. أشعلت السعودية شرارة الأخبار العاجلة، وتتابعت بعدها البيانات من روسيا وسبع دول أخرى، لتكون الحصيلة انخفاضاً طوعياً لإنتاج النفط العالمي بنحو 1.7 مليون برميل يومياً اعتباراً من مطلع أيار المقبل حتى نهاية العام الحالي.
كان الانطباع الأول بأن الخطوة ستُحدث غضباً كبيراً في واشنطن، قياساً على التصريحات العالية النبرة التي أطلقها المسؤولون الأميركيون في تشرين الأول الماضي إثر قرار “أوبك بلاس” خفض الإنتاج بمليوني برميل يومياً. رأت واشنطن في ذلك القرار حينها اصطفافاً من أوبك إلى جانب روسيا في الصراع الدولي القائم حالياً، فضلاً عن الاحتجاج على تأثيره السلبي على النمو العالمي ومعدلات التضخم، في وقت تبدو فيه الولايات المتحدة متجهة إلى الركود الاقتصادي.

ثمة اختلاف أساسي في ظروف السوق. فأسعار النفط كانت قبل قرار التخفيضات دون الثمانين دولاراً، بل إن خام برنت انخفض دون السبعين دولاراً في الأسابيع الأخيرة لبعض الوقت

ردّ أميركي هادئ
لكنّ الرد الأميركي أتى أكثر هدوءاً من التوقعات، فاقتصر الأمر في الساعات الأولى على انتقاد ملطّف من المتحدث باسم مجلس الامن القومي جون كيربي رداً على أسئلة الصحافيين أثناء إفادته اليومية. إذ قال إن البيت الأبيض وُضع مسبقاً في أجواء قرارات التخفيضات وكان رده بأنه “لا يُنصح بها في هذا التوقيت، بالنظر إلى حالة عدم اليقين في الأسواق”. وكان واضحاً أن كيربي وضع الأمر في إطار الاختلاف في الرأي الذي لا يفسد للود قضية مع السعودية: “لن نتفق دائماً مع كل شيء تفعله السعودية أو تقوله، وهذا ما ينطبق عليهم بالقدر نفسه، لكن ذلك لا يقلل من أنها شراكة استراتيجية”.
في اليوم التالي سئل الرئيس الأميركي جو بايدن عن تأثير التخفيضات فقال إنها “ليست بالسوء الذي تعتقدون”. ووردت بالتزامن تعليقات سلبية من وزيرة الخزانة الأميركية، لكن أتت في سياق الحديث عن تضخم الأسعار وتوقعات النمو في الاقتصاد الأميركي.
في المجمل، تختلف أجواء هذه التصريحات تماماً عن الغضب الأميركي العارم بعد قرار “أوبك بلاس” في تشرين الأول الماضي. حينها طلب بايدن على الفور من وزارة الطاقة الأميركية الإفراج عن عشرة ملايين برميل من الاحتياطي الاستراتيجي، وسرى الحديث عن إجراءات للحد من تحكم أوبك بالسوق النفطية.
فما الذي يجعل التخفيضات الجديدة أقل وطأة على الأميركيين؟
ثمة اختلاف أساسي في ظروف السوق. فأسعار النفط كانت قبل قرار التخفيضات دون الثمانين دولاراً، بل إن خام برنت انخفض دون السبعين دولاراً في الأسابيع الأخيرة لبعض الوقت، مسجلاً أدنى مستوى منذ أكثر من عامين. 
كما أن الظرف السياسي في الولايات المتحدة مختلف أيضاً. ففي تشرين الأول الماضي كانت الولايات المتحدة على أبواب انتخابات التجديد النصفي الأميركي، وكانت أسعار البنزين بشكل خاص تشكل صداعاً لإدارة بايدن وحزبه الديمقراطي.

روسيا داخل القرار وخارجه
ما هو أهم من ذلك أن القرار الجديد حمل اختلافاً جوهرياً من حيث الشكل عن قرار تشرين الأول. فهذه المرة كان الحرص على إخراجه كجهد طوعي منسق بين مجموعة من الدول، وليس كقرار رسمي من مجموعة “أوبك بلاس”. وهذا مفيد من وجهين:
1- بدا أن هناك حرصاً على الفصل بين قرارات الدول الثماني التي أعلنت التخفيضات الطوعية (السعودية والإمارات والكويت والعراق والجزائر وسلطنة عمان وكازاخستان والغابون)، وقرار روسيا التي أعلنت تمديد تخفيض الإنتاج المعلن سابقاً بواقع نصف مليون برميل يومياً، حتى نهاية العام. ومن الواضح أن الهدف من ذلك سياسي، لتجنب تصوير القرار اصطفافاً من أوبك والدول الخليجية إلى جانب روسيا في الظرف الدولي الراهن. وفي المقابل، حقق الإعلان الروسي المتزامن المبتغى بإظهار تماسك تحالف “أوبك بلاس”، وبقائه لاعباً حاسماً في السوق النفطية.
2- الوجه الآخر أن قرارات تخفيض الإنتاج الجديدة ذات طبيعة طوعية، أي أنها ليست ملزمة، ولن تنعكس على الكوتا المحددة لكل دولة وفقاً لاتفاق “أوبك بلاس”. وهذا يعطي مرونة للدول التي قررت التخفيضات لتحديد مستويات إنتاجها بحسب ظروف السوق.

تأديب المضاربين
يبقى السؤال الأهم: إذا لم تكن قرارات تخفيض الإنتاج في سياق تحدّي واشنطن فما الدافع الحقيقي وراءها؟
العالمون بشؤون السوق يقولون إن الأمر لا يتعلق بتوقعات قاتمة للطلب العالمي على النفط كما هو شائع. الواضح من إخراج القرارات أن هدفها توجيه ضربة تأديبية للمضاربين الذين يراهنون على انخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية.
فخلال الأشهر الماضية راكمت بنوك الاستثمار وصناديق التحوط مراكز بيع على عقود النفط الآجلة بأرقام مقلقة (نوع من المشتقات المالية يحقق المكاسب إذا انخفضت الأسعار)، وبدأ ذلك يؤثر على الأسعار بشكل ملموس. وقد أظهرت التجارب أن السعوديين بشكل خاص تمرّسوا في مواجهة لعبة المضاربات. وقد استعاد كثيرون في اليومين الماضيين تصريحاً شهيراً لوزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان قال فيها إنه سيجعل المضاربين “يصرخون من الألم”. ويبدو أنه نجح في ذلك مرة أخرى.

إقرأ أيضاً: أزمة مصرفية عالميّة؟ لا يؤخذ بكلام المسؤولين؟

دع الأمر للسعوديين
الواضح من سياق الأحداث هذه المرة أن إدارة بايدن باتت أكثر ثقة بالإدارة السعودية للسوق النفطية العالمية، خصوصاً أن ما حدث في السوق النفطية بعد قرار “أوبك بلاس” في تشرين الأول أكد موثوقية التقديرات السعودية، فالأسعار لم ترتفع إلا لوقت وجيز بعد القرار، ثم عادت بعد ذلك إلى التراجع، ما أكد أن السوق كانت متخمة بالمعروض، خلافاً للتقديرات الأميركية.
صحيح أن الولايات المتحدة تعيش قلقاً كبيراً من ارتفاع التضخم واتجاه الاقتصاد إلى الركود، وأن ارتفاع أسعار النفط يعقّد حساباتها، لكن يبدو هذه المرة أن التواصل بين الرياض وواشنطن أفضل من ذي قبل، وثمة ثقة بأن السعودية تدير استقرار السوق على المدى البعيد ضمن هوامش تحقق مصالح المنتجين والمستهلكين معاً.
يبدو أن إدارة بايدن اقتنعت أخيراً بمقولة: “دع الأمر للسعوديين”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…