أما وقد هدأت عاصفة حكم المحكمة الدستورية التي قضت بإبطال مجلس الأمّة المُنتخب في أيلول 2022 وإعادة مجلس الأمّة المنحلّ المنتخب في 2020، يبدو أنّ الأزمة السياسية التي كانت مستفحلة في مطلع العام الماضي والتي حتّمت حلّ مجلس الأمّة والعودة إلى الشعب في انتخابات مبكرة، عادت من جديد بشكل أشدّ وطأة.
فقد انقسم النواب الكويتيون إلى مجموعتين كبيرتين:
– الأولى تضمّ غالبية نواب المجلس العائد، ويتلخّص موقفها بضرورة الالتزام بمفاعيل المحكمة الدستورية، وعودة “مجلس 2020” إلى ممارسة مهامّه، على أن يكون حسم مصيره بيد القيادة السياسية (الأمير ووليّ العهد الذي ينوب عنه في الكثير من صلاحياته الأساسية)، باعتبارها الطرف الوحيد القادر على حلّ المجلس مجدّداً والذهاب إلى انتخابات جديدة.
لكنّ هذه المجموعة تسعى إلى إقرار بعض الإصلاحات قبل الانتخابات، في مقدَّمها إقرار “ؤ” بهدف ضبط عملية الاقتراع وتحصينها من الإبطال مجدّداً، كما جرى في 19 آذار الماضي، وقبل ذلك مرّتين في عام 2012.
وتمتلك هذه المجموعة القوّة الشرعية التي تستمدّها من حكم المحكمة الدستورية، ووقوفها وراء أيّ قرار يصدر عن الأمير.
– المجموعة الثانية تضمّ النوّاب المُبطَلة عضويّتهم والنواب الحاليين المعارضين الذين حافظوا على مقاعدهم باعتبارهم كانوا أعضاء في “مجلس 2020”.
هذه المجموعة تدرّجت في مواقفها المعارضة، وتلتقي على شعار واحد هو أنّ المجلس الحالي “غير شرعي” وفقَدَ شرعيّته بعد انتخابات 2022، ولا يمكن أن يستمدّها مجدّداً بحكم قضائي.
يبدو أنّ الأزمة السياسية التي كانت مستفحلة في مطلع العام الماضي والتي حتّمت حلّ مجلس الأمّة والعودة إلى الشعب في انتخابات مبكرة، عادت من جديد بشكل أشدّ وطأة
– وتنقسم هذه المجموعة إلى 3 فئات:
1- الأولى يمكن وصفها بفئة “المراقبين”، وتضمّ نوّاباً أبدوا تحفّظاً على حكم “الدستورية” وتأييداً للمجلس المُبطَل، بيد أنّهم ابتعدوا عن “الخشونة” السياسية واكتفوا بسقف معارضة معقول، بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع.
2- الثانية تضمّ نوّاباً من صقور المعارضة يرفضون بشكل قاطع عودة “مجلس 2020” إلى الانعقاد تحت أيّ ظرف من الظروف، ويلوّحون بمنع ذلك من خلال تصعيد الاعتراض داخل قاعة البرلمان، وربّما العودة إلى الممارسات السابقة التي عطّلت الجلسات وتتمثّل بجلوس النواب في مقاعد الوزراء، وهو ما يمنع الحكومة من الحضور، وبالتالي لا تنعقد الجلسات، وهو ما اصطُلح على تسميته “لعبة الكراسي”.
لا يكتفي بعض النواب في هذه الفئة برفض حكم “الدستورية”، بل يرفضون إجراء انتخابات جديدة، ويعتبرون أنّ “مجلس 2022” هو المجلس الشرعي ويجب أن يعود لممارسة مهامّه على الرغم من عدم وجود أيّ سبيل قانوني وسياسي لذلك.
3- الثالثة هي الفئة ذات السقف الأعلى، وتضمّ نواباً وشخصيات وصلوا إلى حدّ المطالبة بـ”الإمارة الدستورية” وتعيين رئيس وزراء من الشعب وليس من الأسرة الحاكمة.
تجاوزت هذه الفئة “الخطوط الحمر”، وتطالب عملياً بتغييرات جذرية في نظام الحكم، بيد أنّه لم يتّضح حجمها أو تأثيرها بعد، في ظلّ ترجيحات بصعوبة انضمام كثيرين من الفئتين الأولى والثانية إليها.
ما زاد الضباب كثافةً هو غياب الموقف الحكومي من حكم المحكمة الدستورية، إذ لم يصدر أيّ مؤشّر سلبي أو إيجابي، باستثناء استقبال وليّ العهد الشيخ مشعل الأحمد لمرزوق الغانم، بصفته رئيس مجلس الأمّة الحالي وليس السابق، وهو أمر يراه كثيرون بديهيّاً وطبيعياً، على اعتبار أنّ أحكام “الدستورية” نافذة ونهائية.
أيّاً يكن السيناريو الذي تسير نحوه الكويت، فإنّ ما جرى كشَف بوضوح أنّ “أنصاف الحلول” لم تعُد تُجدي، وأنّ إرساء علاقة صحّية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يبقى حلماً بعيد المنال… حتى إشعار آخر.
ما عمّق المشكلة أكثر هو أنّ حكم إبطال مجلس الأمّة صدر في ظلّ عدم وجود حكومة، إذ إنّ الحكومة الحالية تُصرّف الأعمال منذ أسابيع، بانتظار تشكيل الحكومة الجديدة.
بعد سيل من التحليلات والتسريبات، يبدو أنّ الخيار الأرجح هو إعلان الحكومة الجديدة خلال الأسبوع المقبل، ثمّ تُقسِم أمام الأمير (أو نائبه وليّ العهد) لممارسة مهامّها التنفيذية.
يُفترض أن تكون الخطوة الثانية القسَم أمام مجلس الأمّة في أولى جلساته ليصبح وزراؤها أعضاء في مجلس الأمّة.
ستكون جلسة القسم هذه مؤشّراً إلى مسار الأمور. فإمّا أن تُعقد وتنتهي بطريقة كلاسيكية مع بعض الاعتراضات، وإمّا أن يتمّ تعطيلها فتزداد التعقيدات، وإمّا أن تُعقد ولا يُعقد غيرها (أي تكون الجلسة الأولى والأخيرة وهدفها فقط تسيير المسار الدستوري).
تذهب التحليلات باتجاه سيناريو يؤدّي إلى الانتخابات سيكون على الشكل التالي:
في أول جلسة يتعذّر على الحكومة أداء القسم فترفع كتاب عدم تعاون إلى الأمير، الذي يحلّ مجلس الأمّة وفق المادة 107 من الدستور، ويدعو إلى انتخابات جديدة. وحتى لو انعقدت أول جلسة، يتمّ في أول جلسة بعدها تقديم استجواب لرئيس الوزراء، فتقوم الحكومة برفع كتاب عدم التعاون، وهو ما يؤدّي أيضاً إلى الانتخابات الجديدة (مُرجّحة في الصيف أو الخريف).
لكنّ هذا السيناريو يفترض موافقة القيادة السياسية على هذا المسار، على الرغم من محاولة “الانقضاض” التي بدأت تطفو على السطح، وذكّرت بأحداث 2012 في ذروة الأزمة السياسية التي كادت تؤدّي إلى تعليق الحياة البرلمانية، عبر ما يُعرف بـ”الحلّ غير الدستوري”.
إقرأ أيضاً: الكويت في “حوسة” بانتظار العاصفة!
أيّاً يكن السيناريو الذي تسير نحوه الكويت، فإنّ ما جرى كشَف بوضوح أنّ “أنصاف الحلول” لم تعُد تُجدي، وأنّ إرساء علاقة صحّية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يبقى حلماً بعيد المنال… حتى إشعار آخر.