لا يمكن إلا التوقّف عند ما ترتّب على الإساءة التي أقدم عليها بعض النواب بحق لبنان خلال جلسة اللجان النيابية الأخيرة، حين أسقط هؤلاء كلّ قواعد أدب التخاطب بعد تخلّفهم لخمسة أشهر عن أداء واجبهم الدستوري بانتخاب رئيس للجمهورية، وبعد سقطات تشريعية متراكمة حالت دون معالجة الأزمات النقدية والاقتصادية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لوقف الانهيار.
أخطأ مَن هالته عشوائية التعاطي مع مسألة التوقيت الصيفي واعتقد أنّها آخر فصول الحوكمة رداءةً، قبل أن تقدّم جلسة اللجان النيابية المشهد الأكثر إسفافاً وابتذالاً في التخاطب بين من سمّاهم الدستور “نواب الأمّة جمعاء”. فهل يكون ما جرى كافياً لكي يعيد اللبنانيون النظر في اختيار من يمثّلهم في الانتخابات المقبلة؟ أم يلامس ما حصل عشائريّةً ما زالت متأصّلة في النفوس ويستشعر البعض أنّها مصدر أمانهم واستقرارهم؟
الانتخابات البلدية هي الاختبار الحقيقي لخيارات اللبنانيين السياسية ولرؤيتهم للشأن العام، ولا يمكن أن تكون إلا صورة حقيقية لما هم عليه ولما يريدونه
العصبيّة والتوتّر اللذان فجّرا الخلاف وأطلقا العنان لما جرى لا يمكن فصلهما عن موضوع الجلسة التي خُصّصت لتمويل الانتخابات البلدية المرتقبة في شهر أيار المقبل، والتي سيدعو وزير الداخلية القاضي بسام مولوي الهيئات الناخبة إليها في الثالث من شهر نيسان المقبل.
في الانتخابات البلدية ليس من نصاب يفرضه الدستور ويمكن تعطيله. ولا يمكن تصنيف المرشّحين في أكثر من ألف بلدية وفقاً لما يُعتمد في تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية بين مرشّح تحدٍّ ومرشّح لا يؤمّن حقوق هذه الطائفة أو تلك ومرشّح يطعن المقاومة في ظهرها.
الوسيلة الوحيدة لتعطيل الانتخابات البلدية هي وضع المعوّقات أمام تمويلها، وهو ما استوجب ذلك الانحدار في التخاطب لتطيير الجلسة، فالوقع المعنوي للاعتذار عن الخطأ لن يبلغ ما يمكن أن تكون عليه نتائج السير بانتخابات مجهولة النتائج.
اختبار “ماذا يريد اللبنانيون؟”
الانتخابات البلدية هي الاختبار الحقيقي لخيارات اللبنانيين السياسية ولرؤيتهم للشأن العام، ولا يمكن أن تكون إلا صورة حقيقية لما هم عليه ولما يريدونه. هنا تكمن صعوبة تقدير النتائج التي ستُسقِط معها كلّ ادّعاءات التمثيل الشعبي الذي تتغنّى به بعض الأحزاب السياسية منذ الانتخابات النيابية التي شابها الكثير من الثغرات، سواء على مستوى القانون الانتخابي بحدّ ذاته أو على مستوى شفافية العملية الانتخابية. وإزاء ذلك يزداد موقف السلطة حراجة لاجتماع عوامل عديدة:
– أوّلها: عدم القدرة على التمديد للمجالس البلدية أو على تحمّل تبِعات عدم إجراء الانتخابات. فهذا الأمر سيُسقط السلطة داخلياً كما سيزيد من هشاشتها ويضعف شرعيّتها أمام المجتمع الدولي.
– وثانيها: عدم القدرة على تحويل الملف البلدي إلى مادة للابتزاز السياسي قابلة للاستخدام في الملف الرئاسي.
– وثالثها: تداعيات النتائج المرتقبة على أوزان الكتل السياسية المنضوية في معسكر حزب الله الذي يقاطع جلسات الانتخابات الرئاسية تحت عناوين مختلفة.
تتموْضع الانتخابات البلدية في سياق طبيعي متّصل بإنتاج كلّ مستويات السلطة، ومنها رئاسة الجمهورية لأنّها الاستحقاق الأقرب، بما يجعلها ممرّاً إلزامياً نحو الرئاسة الأولى
بهذا المعنى تصبح الانتخابات البلدية المرتقبة اختباراً للأوزان السياسية وجولة أولى في صلب المعركة الرئاسية التي يواجه فيها حزب الله وحلفاؤه مأزق الفشل في إقناع الدول المشاركة في لقاء باريس بكون رئيس تيار المردة سليمان فرنجية مرشّحاً متمتّعاً بالمواصفات المطلوبة، وقادراً على تطبيق الإصلاحات، على الرغم من الاستماتة الفرنسية لإقناع المملكة العربية السعودية والولايات المتّحدة به.
احتفاظ الحزب بماكسبه المحلية
بالتزامن مع ذلك، يطرح استمرار الضغط الدولي لإخراج لبنان من أزمته والتلويح بإجراءات ستطال أركان السلطة، أكثر من تساؤل عن قدرة الحزب على الاحتفاظ بمكاسبه المحلية في ضوء عاملين اثنين:
– أولهما: تطوّر موقع إيران ليس على خلفيّة الاتّفاق مع المملكة العربية السعودية فحسب، بل ومن خلال استقطابها من قِبل الصين وروسيا الذي سيضعها على شبكة مصالح أكثر اتّساعاً ويعطيها مزيداً من حصانة دولية تحتاج إليها، ويُلزمها بالتخلّي عن تحالفات صاغتها في سياق ما عُرف بتصدير الثورة.
– الثاني: تطوّر الموقف العربي حيال دمشق وعودة العلاقات الدبلوماسية المرتقبة مع السعودية ومشاركة سوريا في القمّة العربية التي ستُعقد في الرياض خلال شهر أيار المقبل. إذ ستتيح هذه المستجدّات طرح الأزمة اللبنانية على جدول الأعمال وتداخلها مع الأزمة السورية، ومن ضمنها مسائل الحدود والأمن وسواها.
في ضوء كلّ ذلك، وفي مجتمع تتشابك فيه الهموم المعيشية اليومية بالخيارات السياسية الكبرى، ودَرج ممثّلوه على متابعة خدمات المواطنين في الإدارات العامة، تتموْضع الانتخابات البلدية في سياق طبيعي متّصل بإنتاج كلّ مستويات السلطة، ومنها رئاسة الجمهورية لأنّها الاستحقاق الأقرب، بما يجعلها ممرّاً إلزامياً نحو الرئاسة الأولى.
إقرأ أيضاً: لعبة الساعة تجاوزت لبنان ومسيحيّيه
فهل يمتلك المجلس النيابي الإرادة والجرأة لدعوة اللجان النيابية مجدّداً إلى البحث في تمويل الانتخابات البلدية؟ وهل يستحقّ الرئاسة من لا يجرؤ على الانتخابات البلدية؟ وهل يصلُح الشتّامون لانتخاب رئيسٍ للجمهورية؟
* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات