تنشرح قلوب البعض وهم يشاهدون احتمالات “الحرب الأهليّة” في إسرائيل.
تنفطر قلوب البعض الآخر ممّن راهنوا على “السلام” و”التطبيع” مع هذه الدولة القائمة على العنصرية.
في لبنان، المسألة محسومة: إسرائيل عدوّ، كما يقول “الكتاب”، أي الدستور، وتحديداً وفق اتفاق الطائف. وكما تنصّ القوانين، وكما تميل أمزجة اللبنانيين على اختلافاتهم.
سقطت “صفقة القرن” نهائياً، كفكرة، وكاحتمال، وذهب الخليج إلى إيران، حيث الفاتورة الشعبية أكثر “توازناً”. هذا بسبب الخيارات الإسرائيلية في الداخل والخارج
ونحن في لبنان، كما يعرف القاصي والداني، دفعنا فواتير إسرائيل مرّاتٍ كثيرة:
1- دفعها اللبنانيون أوّلاً في 1948 عندما طردت مئات آلاف الفلسطينيين إلى لبنان، وزعزعت استقراره، وصولاً إلى “الحرب على الغريب” والدويلة الفلسطينية داخل دولة لبنان الستّينيات والسبعينيات، وقبل 48 في مجازر الميليشيات الصهيونية في حولا وغيرها.
2- ودفعها اللبنانيون حين كانت تعتدي إسرائيل على لبنان وتقتل لبنانيين وتعيث خراباً في مدنهم بين 1948 و1982.
3- ودفعناها في الاجتياح عام 1982 وما سبّبه من مجازر وحروب.
4- ودفعناها في عدوان 1993 و1996، والمجازر التي لم ترحم أهل الجنوب.
5- ودفعناها بعد التحرير، حين، باسم المقاومة، تصاعد حكم حزب الله وإيران في لبنان وصولاً إلى الإمساك شبه الكامل بكلّ مؤسّسات الحكم والرئاسات الثلاث في 2016 وما تلاها. حينها صرنا واحدة من دول العرب التي حكمت شعوبها باسم فلسطين وشعارات الممانعة الفضفاضة والكاذبة.
6- ودفعناها حين ذهب حزب الله إلى سوريا واليمن والعراق، باسم فلسطين، وباسم “المقاومة” وباسم مواجهة إسرائيل.
7- ودفعناها، نحن المتمسّكين بالحرّيّات في لبنان، حين اعترضنا على حكم الملالي، فراح بعضنا في عبوات وآخرين برصاصات على جانب الطريق، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا.
8- ودفعنا فاتورة إسرائيل حين راح الممانعون يتّهمون أيّ معارض سياسي بأنّه “عميل إسرائيلي”. وحين قرّرت إيران أنّ كلّ معارض سوري هو “عميل إسرائيلي”، سواء كان سنّيّاً أو شيعياً أو مسيحياً…
لا نزال، وسنظلّ ندفع فواتير إسرائيل مع كلّ قطرة نفط وهبّة غاز يستخرجها الإسرائيليون من حقول كانت لنا، أو كان يمكن أن تكون لنا
فاتورة الترسيم البحريّ
وإذا أردنا الاستمرار، فإنّ اللائحة تطول ولا تنتهي. نحن في لبنان دفعنا فواتير إسرائيل، ولا نزال ندفع، لكنّ الفاتورة الكبرى كانت “الترسيم البحري”:
– هنا دفعنا قبل أشهر 1,430 كلم2، ومليارات الدولارات من أموال أولادنا، قد تقارب أموال الودائع المنهوبة في المصارف. دفعنا الخطّ 29، لأنّ الطبقة السياسية الفاسدة والمستبدّة قرّرت أن تضحّي من ثروات اللبنانيين في البحر، كي تحافظ على رأسها، بحماية الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. وكاد بعض الممانعين يتّهم من تمسّكوا بالخطّ 29 بأنّهم “عملاء لإسرائيل”… يا لسخرية القدر.
بهذا المعنى، لا نزال، وسنظلّ ندفع فواتير إسرائيل مع كلّ قطرة نفط وهبّة غاز يستخرجها الإسرائيليون من حقول كانت لنا، أو كان يمكن أن تكون لنا.
وها نحن ندفع أيضاً فاتورة “انهزام” من حكمونا باسم “تحرير القدس”، فدمّروا صنعاء وبغداد وحمص وحلب وحماه… ندفعها حين “طأطأوا” الرؤوس لإسرائيل، تيمّناً بكلّ نظام كلّما شارف على التهاوي، تمسّك بالقشّة الإسرائيلية، فتصير قارب نجاة.
في مديح الفاسدين المتطرّفين
يُقال إنّ المرض يُعدي، لكنّ الصحّة لا تُعدي. ونحن في لبنان، وفي سوريا والعراق واليمن، نعيش أمراض التطرّف الديني، وأمراض الفساد: المافيا المالية والميليشيا المذهبية.
أصيبت إسرائيل بالعدوى. نتانياهو يريد “تطويع القضاء”، كما هو القضاء في دول الفساد والتطرّف العربية، ألعوبة بيد الحاكم
الجديد أنّ إسرائيل تعرّضت لهذه العدوى. فعجزت 5 مرّات عن انتخاب برلمان قادر على الحكم، وفي آخر انتخابات جلست تحت حكم بنيامين نتانياهو، في تحالف بين فساده -هو الهارب من الملاحقة القانونية والمستعجل على “إخضاع القضاء” لينجو من الملاحقة القانونية- وبين أشدّ المتطرّفين علوًّا في الشرق الأوسط كلّه، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين يمسكان أمن فلسطين المحتلّة وإسرائيل، ويمضيان في خطط استيطان وتهويد قد تفجّر البلاد وتغرقها في بحر من الدم.
أصيبت إسرائيل بالعدوى. نتانياهو يريد “تطويع القضاء”، كما هو القضاء في دول الفساد والتطرّف العربية، ألعوبة بيد الحاكم. ووزيراه المتطرّفان يريدان “تحرير إسرائيل”، على طريقة “تحرير القدس”. وها هما يغوصان في دماء الفلسطينيين، ويعملان على تهويد الضفّة الغربية، وليس القدس فقط، ويريدان إسرائيل بلا فلسطينيين.
هكذا، وبلا مبالغة، يمكن القول إنّ الممانعين هزموا إسرائيل مرّتين، مرّة بالسلاح، في تحرير جنوب لبنان عام 2000، ومرّة أخرى حين نحروا بلادهم ونحروا شعوبها، فأصابوا الدولة الصهيونية بعدوى جائحة “التطرّف والفساد”… وها هي إسرائيل تتمايل كما لو أنّها ستسقط، وتتحوّل إلى واحدة من دول الشرق الأوسط. كان التطرّف موجوداً، لكن لم يكن حكم الإسرائيليين لأنفسهم متطرّفاً. كان تطرّفاً بوجه العرب. اليوم يتطرّفون بعضهم ضدّ البعض الآخر، ينتخبون نتانياهو، أكبر الفاسدين، رئيساً. تماماً كما نفعل في لبنان وسوريا والعراق واليمن…
صعود العرب… سقوط إسرائيل
لا يمكن أن نغفل واقعةً ضروريّة:
– في لحظة مهسا أميني، لحظة خلع المرأة الإيرانية الحجاب الإلزامي… وفي لحظة قتل أبي بكر البغدادي وأيمن الظواهري بعد أسامة بن لادن، وفي زمن نهاية التطرّف السنّيّ، و”التطهير” الديني الذي بدأته القيادة السعودية لأحاديث الرسول “صلهم”… وأيضاً في زمن المصالحة بين العملاقين السنّي والشيعي، المتصارعين منذ 2003، في الزمن الحديث بعد اجتياح بغداد واحتلال عاصمة العباسيّين… يخرج داعش الإسرائيلي ليعلن أنّ زمن التطرّف في المنطقة بات إسرائيلياً…
إقرأ أيضاً: سلاح الحزب: كنزُنا الوحيد… أو أزمتنا المديدة؟
– هذا بعدما رفض الإسرائيليون مبادرة السلام العربية المنقّحة، بعد مبادرة بيروت في 2002. رفضت إسرائيل “اتفاقات أبراهام”، إذ ردّت عليها بالمزيد من التهويد وبانتخاب متطرّفين. ورفض الإسرائيليون حلّ الدولتين وقرّروا بعد التطبيع العربي الخليجي، الجزئي، معهم، أن يزيدوا من وتيرة قتل أهل الأرض الفلسطينيين.
– سقطت “صفقة القرن” نهائياً، كفكرة، وكاحتمال، وذهب الخليج إلى إيران، حيث الفاتورة الشعبية أكثر “توازناً”. هذا بسبب الخيارات الإسرائيلية في الداخل والخارج.
هنيئاً لنا: صبرنا ونلنا. هزمنا إسرائيل، هذه المرّة بالفساد والتطرّف. فتحيّة للفاسدين والمتطرّفين، صانعي الوحول في بلادنا، وقد صدّروا “ثورتهم” هذه، إلى تل أبيب.
تحيّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@