يستطيع القارىء بين سطور بيان صندوق النقد الدولي الذي صدر في ختام زيارة وفده لبنان، أن يلاحظ جملة من المتغيّرات: لغة الصندوق لم تعُد كما كانت من قبل. ليست هي لغته التي استخدمها في الاتفاق على مستوى الموظّفين قبل أشهر، بل أصبحت أكثف وأشدّ حدّة وحزماً.
بنود ومصطلحات جديدة لم نسمع بها من قبل (أقلّه لم تتحدّث عنها الحكومة) بدأت تُتَداول اليوم، وتتحدّث للمرّة الأولى عن القطاع العام ونظام التقاعد وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، في حين أنّ ما ركّزت عليه وسائل الإعلام اختُصر بـ”المفترق الخطير” الذي حذّر منه الصندوق.
يستطيع القارىء بين سطور بيان صندوق النقد الدولي الذي صدر في ختام زيارة وفده لبنان، أن يلاحظ جملة من المتغيّرات: لغة الصندوق لم تعُد كما كانت من قبل
يوم اتفق الصندوق مع الحكومة اللبنانية على مستوى الموظفين خلال شهر نيسان 2022، كانت الورقة الموقّعة بين الطرفين تقتصر على نحو 8 نقاط، هي:
1- إقرار قانون الكابيتال كونترول.
2- موافقة السلطة (مجلس النواب ومجلس الوزراء) على هيكلة المصارف.
3- تقويم أكبر 14 مصرفاً عبر شركة دولية مرموقة.
4- تعديل قانون السرّية المصرفية لمكافحة الفساد.
5- التدقيق في حسابات مصرف لبنان.
6- إعادة هيكلة المالية العامة والدين العام.
7- إقرار الموازنة لعام 2022.
8- توحيد أسعار الصرف (كابيتال كونترول).
أمّا اليوم فالبيان الذي صدر عن الصندوق والمنشور على موقعه الإلكتروني جاء على ذكر نقاط إضافية جديدة بدأ الصندوق يعيرها اهتمامه ويجاهر بأنّها، مجتمعة فوق النقاط السابقة، هي الممرّ الإلزامي لأيّ حلّ في لبنان، ومن دونها فإنّنا ننتظر ذاك “المفترق الخطر”.
بعد إنجاز الترسيم، تبدّلت الأمور. تخلّى الصندوق عن مغازلة السلطة. لا حاجة له إلى استرضاء أحد. ما عاد مضطرّاً إلى أن يبدو Soft في طروحاته أو أن يغازل الثنائي. ولهذا بدأ يجاهر حقيقةً بما يمكن أن ينقذ لبنان ويعيده إلى برّ الأمان
النقاط الجديدة تُدرَج تحت 3 عناوين رئيسية هي:
1- ترشيق القطاع العام.
2- ضبط التهرّب الضريبي ومكافحة “اقتصاد الظلّ”.
3- ضبط التهريب أو ما يعتبره الصندوق الفساد وغسل الأموال وتمويل الإرهاب!
هذه النقاط المستجدّة كانت جزءاً من النقاشات التي كانت تدور بين وفد الصندوق وبين الجهات والخبراء الذين كان يتبادل معهم وفد الصندوق الآراء. أغلب هؤلاء كانوا يفترضون أنّ تلك العناوين لن يُغفلها الصندوق وسيجاهر بها يوماً ما. لكنّ الصندوق لم يفعّل ذلك يوم وقّع الاتفاق على مستوى الموظفين، وبقيت تلك العناوين مؤجّلة. وهذا ما يطرح السؤال: لماذا تأخّر الصندوق في الكشف عن هذه الشروط؟ لِمَ لَمْ يطرحها قبل ذلك على الرغم من أنّها جوهرية ولا يمكن بلوغ أيّ حلّ للأزمة من دونها مثلما يوحي ويقول؟
قبل الترسيم ليس كما بعده
قد يكون الجواب واضحاً وبسيطاً. إذا استذكرنا تلك الحقبة التي رافقت المفاوضات ثمّ توقيع اتفاق الإطار، نستنتج أنّ “العهد” (عهد ميشال عون) كان في آخر أيامه. كان غارقاً في مهمّة إنجاز ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. ذاك الترسيم الذي صوّرته السلطة لنا نحن اللبنانيين (بعدما صوّره الأميركيون بدورهم للسلطة) أنّه “خشبة الخلاص” التي ستنقذ لبنان من كبوته.
في حينه، لم تكن الإدارة الأميركية راغبة بالاشتباك مع السلطة وغير طامحة إلى “تنقيزها” أو “تنقيز” حزب الله وفريقه السياسي. بمعنى آخر، لم تظهر الشروط “المستجدّة” إلا حتى اليوم، بهدف تمرير إنجاز ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، إذ يبدو أنّ الصندوق، والولايات المتحدة من خلفه، كان يريد لملف الترسيم أن يمرّ بلا عقبات أو عرقلات، وهذا ما دفع الصندوق إلى الموافقة على النقاط التي تخصّ القطاع المصرفي، باعتبار أنّه “الحلقة الأضعف” والمغضوب عليه من الجميع، ويحتمل “السحاسيح” بلا اعتراض من أحد.
أمّا اليوم، بعد إنجاز الترسيم، تبدّلت الأمور. تخلّى الصندوق عن مغازلة السلطة. لا حاجة له إلى استرضاء أحد. ما عاد مضطرّاً إلى أن يبدو Soft في طروحاته أو أن يغازل الثنائي. ولهذا بدأ يجاهر حقيقةً بما يمكن أن ينقذ لبنان ويعيده إلى برّ الأمان.
ما يطلبه الصندوق ليس من باب التبلّي ولا التحامل. هي شروط واقعية وحقيقية لخروج لبنان من الأزمة. لكنّ المفارقة أنّ الصندوق اختار طرحها بالتدريج بناء على أجندات سياسية كما يبدو
أمّا الشروط التي يبدو أنّه أضافها إلى الاتفاق على مستوى الموظفين، فهي كالتالي:
في ترشيق القطاع العامّ:
1- الحدّ من خسائر المؤسسات المملوكة للدولة والمضيّ قدماً في تنفيذ إصلاحات “نظام التقاعد” من أجل إعادة هيكلة الديون وخفض الدين العام، وإعداد قائمة شاملة بالمؤسسات المملوكة للدولة واستكمال ونشر عمليات تدقيق الحسابات المالية لكبرى المؤسسات من بينها، إضافة إلى “إصلاح القطاع العام ورفع مستوى الكفاءة”.
2- تعديل قانون النقد والتسليف والتدقيق بأوضاع البنك المركزي، ومنعه من تمويل الحكومة. وهذا يعني أنّ الصندوق يرفض دفع رواتب القطاع العام بواسطة طبع الليرات، وغير راضٍ على التدخّل في السوق بواسطة “صيرفة”، التي تلجأ إليها السلطة وتتوسّط لدى “المركزي” من أجل أن يتدخّل عبرها لإسكات الغاضبين من الوضع المعيشي.
هي المرّة الأولى التي تتناول فيها بيانات الصندوق القطاع العام بهذا الشكل. والسؤال يقول: هل كان الصندوق قادراً على المجاهرة بهذه الوقائع والدعوات إلى الصلاح قبل إنجاز الترسيم؟
في معالجة التهرّب الضريبيّ:
3- تنفيذ إصلاحات تركّز على توسيع الوعاء الضريبي، وسدّ الثغرات القائمة، وتحسين الامتثال الضريبي لمختلف فئات المكلّفين من خلال تقوية الإدارة الضريبية وتحديثها.
هذا التفصيل لم يأتِ الصندوق على ذكره من قبل على الرغم من أنّ الأرقام تشير إلى أنّ التهرّب الضريبي ونموّ ما يسمّى “اقتصاد الظلّ” يفوق الاقتصاد النظامي بنحو 50%، وتُقدِّر بعض الجهات حجمه بنحو 8 مليارات دولار. وتشير مصادر الذين شاركوا في نقاشات الصندوق إلى أنّ حجم المتهرّبين من الضرائب والمحسوبين على ثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” هم أكثر من 30% من نسبة المتهرّبين. هؤلاء محميّون ومدعومون من الثنائي المذكور وبالطبع غيرهم الكثير من الأحزاب والأشخاص؟
في مكافحة التهريب وضبط الحدود:
4- تعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعزيز استقلالية ونزاهة القضاء، وتحسين المساءلة على مختلف مستويات القطاع العام، أي أنّ الصندوق بدأ بالحديث عن التهريب والمنافذ البحرية والجوّية والبرّية “السائبة” التي لا يمكن الخروج من الأزمة من دون سدّ الثغرات الضريبية فيها، وبدأ بالحديث عن أهمية وجود جهاز قضائي مستقلّ (هو عماد أيّ عملية إصلاحية بالمناسبة) ليضمن حقوق أيّ جهة تفكّر في الاستثمار بلبنان مستقبلاً.
إقرأ أيضاً: أزمة مصرفية عالميّة؟ لا يؤخذ بكلام المسؤولين؟
الصندوق لا يغالي
ما يطلبه الصندوق ليس من باب التبلّي ولا التحامل. هي شروط واقعية وحقيقية لخروج لبنان من الأزمة. لكنّ المفارقة أنّ الصندوق اختار طرحها بالتدريج بناء على أجندات سياسية كما يبدو. لكنّ الصندوق يكون بذلك أيضاً قد رسم “خارطة طريق” اقتصادية للبنان، على غرار تلك الخارطة السياسية التي وضعتها “الورقة الكويتية”. بات لبنان اليوم أمام خارطتين: الأولى سياسية، والثانية اقتصادية. إذا التزم بها الرئيس المنتخب والحكومة المقبلة، خرجوا وأخرجوا اللبنانيين من الأزمة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@