جدّية الجانب الإيراني وحاجته إلى هذا الاتفاق مع المملكة العربية السعودية هي ما دفع طهران إلى تكليف أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الأدميرال علي شمخاني بمهمّة التفاوض النهائي مع الجانب السعودي ممثّلاً بنظيره مستشار الأمن القومي مساعد بن محمد العيبان.
فعلاً انتهى التفاوض إلى توقيع اتفاق تاريخي يؤسّس لتطبيع العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بين البلدين، برعاية وضمانة الدولة الصينية وعلى أراضيها.
تكليف شمخاني كان تعبيراً واضحاً وحقيقياً عن رغبة إيران في إنهاء عقود من التوتّر بين البلدين ووضع أسس تمهّد الطريق لحلّ النقاط الخلافية بينهما، سواء على مستوى العلاقات الثنائية أو في ما يتعلّق بالملفّات الإقليمية التي تشكّل مساحة اشتباك بينهما. تلك التي أشار إليها البيان المشترك الصادر بعد توقيع الاتفاق حين أكّد التزام عدم التدخّل بالشؤون الداخلية لبلدان المنطقة.
جدّية إيران في تعطيل مفاعيل الاتفاقات الإسرائيلية مع بعض الدول الخليجية التي وقّعت على اتفاقية أبراهام، هي نتيجة قرار استراتيجي صدر عن المرشد الأعلى ومرّ عبر المجلس الأعلى للأمن القومي وبتنفيذ من شمخاني
الاستعجال الإيراني… والتروّي السعوديّ
إصرار القيادة السعودية على وضع ملف التفاوض والاتفاق لدى الجانب الأمني، ظهر مع الجولة الأولى من التفاوض التي جرت في نيسان 2022 والجولات الأربع التالية التي استضافتها العاصمة العراقية بغداد. وكذلك فرض تكليف رئيس جهاز الاستخبارات السعودي الفريق خالد الحميدان على الطرف الإيراني أن يكون فريقه المفاوض ذا طابع أمني، برئاسة مساعد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي أمير سعيد ايرواني.
على الرغم من الرغبة الإيرانية في حرق المراحل، ومحاولة الانتقال السريع لحسم أزمة إعادة فتح السفارات واستئناف العلاقات الدبلوماسية، إلا أنّ التروّي السعودي والتمسّك بالأجندة التي حدّدتها القيادة في الرياض لمسار الحوار ونتائجه النهائية أجبرا الجانب الإيراني على التنازل والتراجع.
حافظ الإيراني على حاجته السياسية، بدافع الرغبة في استعادة علاقاته مع المجتمع الدولي في سعيه إلى الحدّ من الآثار السلبية لهذه القطيعة وما لها من تداعيات على المعادلات الإقليمية ومشاريعه في الشرق الأوسط.
أيضاً تولّي شمخاني التفاوض كان دليلاً واضحاً رغبة طهران في إعادة ترميم العلاقات مع السعودية ومن بعدها دول المنطقة، برعاية مباشرة من المرشد الأعلى علي خامنئي، وبناءً على إرادته.
فشمخاني، بالإضافة إلى موقعه والمواقع التي شغلها سابقاً في مؤسّسات النظام، يُعتبر نقطة التقاء بين المرشد والمؤسسة العسكرية، وتحديداً الحرس الثوري. فهو من جهة يمثّل المرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي، بالإضافة إلى وظيفته الرسمية، ومن جهة أخرى يمثّل تاريخاً داخل المؤسسة العسكرية وفي المواقع المتقدّمة التي شغلها كوزير للدفاع أو كقائد للقوات البحرية للحرس أو كنائب لقائد الحرس.
المرشد يحمي الاتفاق مع السعودية
القرار الإيراني بوضع ملف ترميم العلاقات مع الدول الخليجية في دائرة صلاحيات ومهمّات المجلس الأعلى للأمن القومي، يكشف عن وجود نيّة إيرانية جدّية للتعامل مع هذا الملف، على غرار ما حصل مع الاتفاق النووي الذي أنجزته الخارجية الإيرانية بقيادة الوزير محمد جواد ظريف عام 2015. بالإضافة إلى تحصين نتائج هذا الحوار من تأثير الصراعات الداخلية وحمايةً له من احتمال تعطيل مفاعيله. باعتبار أنّه يدخل في دائرة صلاحيات المرشد الأعلى وصلاحياته في رسم السياسيات العليا للنظام والدولة.
أصلاً تجربة إشراف المرشد على المفاوضات النووية والاتفاق الذي انتهت إليه، ساعدت على تحصينه داخلياً أمام جهود إفشاله وتعطيله، خلال السنوات الثلاث من عمره قبل قرار الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب عام 2018 الانسحاب منه.
سياسة الانفتاح على المحيط الخليجي قد تساعد في تأمين دفع قويّ لجهود إيران نحو بناء منظومة أمنية مشتركة للإشراف على أمن المنطقة وإبعادها عن دائرة التهديد والحرب، وقطع الطريق على إمكانية التوظيف الإسرائيلي للتوتّر القائم بين ضفّتي الخليج
الترحيب الإيراني الرسمي بالاتفاق مع السعودية يكشف عمق الحاجة الإيرانية إلى تحقيق خرق في جدار العزلة والحصار الذي بدأ يأخذ شكل وطابع الأزمة الحقيقية مع تنامي الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية، ودخول المفاوضات النووية مع الإدارة الأميركية في حالة من غموض المصير. ترافق هذا مع ارتفاع واضح لإمكانية تعرّض إيران لعمل عسكري محدود قد يأتي من الجانب الإسرائيلي منفرداً أو بموافقة أميركية بعد ملامسة أنشطة تخصيب اليورانيوم الخطوط الحمر التي تضعها على أعتاب التصنيع العسكري. وبالتالي فإنّ الخرق الذي حقّقته في التقارب مع السعودية يكسر المسار الذي بدأته تل أبيب الساعية إلى استكمال الحصار عليها، بإخراج أو تأخير الطموحات الإسرائيلية، بانتظار “التطبيع” مع الرياض، بهدف بناء تحالف إسرائيلي عربي لمواجهة المشروع الإيراني، حسب تعبير رئيس الوزراء السابق يائير لابيد في أول تعليق له على خبر التوقيع على الاتفاق في العاصمة الصينية.
الانفتاح على الخليج
جدّية إيران في تعطيل مفاعيل الاتفاقات الإسرائيلية مع بعض الدول الخليجية التي وقّعت على اتفاقية أبراهام، هي نتيجة قرار استراتيجي صدر عن المرشد الأعلى ومرّ عبر المجلس الأعلى للأمن القومي وبتنفيذ من شمخاني.
لذلك فإنّ زيارة شمخاني إلى دولة الإمارات العربية المتحدة لا تخرج عن هذا السياق، وتدخل في إطار مساعي تحفيز القيادة الإماراتية على كسر جدار الحذر في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتعاون مع إيران بالاستفادة من التجربة السعودية. خاصة أنّ الخارجية الإيرانية بادرت إلى الحديث عن رغبتها في إعادة علاقاتها مع مملكة البحرين أيضاً.
سياسة الانفتاح على المحيط الخليجي قد تساعد في تأمين دفع قويّ لجهود إيران نحو بناء منظومة أمنية مشتركة للإشراف على أمن المنطقة وإبعادها عن دائرة التهديد والحرب، وقطع الطريق على إمكانية التوظيف الإسرائيلي للتوتّر القائم بين ضفّتي الخليج.
النظام والمصالح العليا
هذا المسار الانفتاحي وتحصينه من خلال رفعه إلى مستوى الأمن القومي، من المفترض أن ينعكس أيضاً على ملف المفاوضات النووية في المرحلة المقبلة. ما يشجّع على هذا الاعتقاد هو وجود سعيد ايرواني، الذي تولّى مهمة التفاوض والحوار مع السعودية في الجولات الخمس الأولى من موقع ممثّل إيران لدى الأمم المتحدة. وهو من قام بخطوة جريئة بقيت في دائرة التشكيك عندما التقى المندوب الخاص للإدارة الأميركية في المسألة الإيرانية روبرت مالي. وهو مرشّح ليلعب دوراً مفصلياً ومتقدّماً في جهود التوصّل إلى تفاهمات جديدة مع واشنطن.
هذا إضافة إلى ما يدور من حديث عن إمكانية إجراء تعديل في الفريق المفاوض من خلال إبعاد علي باقري كني عن ملف التفاوض وإحالته إلى عباس عراقتشي الذي لعب دوراً محورياً في التفاوض وصياغة اتفاق عام 2015 مع ظريف، أو أيّ شخصية أخرى من الفريق السابق. وهو ما يشكّل مؤشّراً إلى حسم قيادة النظام خياراتها بإخراج هذه المفاوضات من دائرة التجاذب والصراع الداخلي وإعادتها إلى دائرة المصالح العليا للنظام.
إقرأ أيضاً: “اتّفاق بكين” لا يستهدف واشنطن
ما يقوم به شمخاني كأمين للمجلس الأعلى للأمن القومي، يشكّل الخطوة الأولى الثابتة باتجاه الحلّ ويعبّر عن موقف حازم من القيادة في تأمين المصالح الاستراتيجية والقومية. ومن المفترض أن تعود مهمة استكمال هذا المسار لوزارة الخارجية وشخص وزيرها بعد أن يكون قد تحرّر من الضغوط والتدخّلات التي تفرضها جماعة الجناح المتشدّد في التيار المحافظ، خاصة أنّ الوزير عبد اللهيان يحظى بثقة مؤسّسة السلطة ويعمل ضمن توجّهاتها وسقف المصالح العليا الذي ترسمه، ويُعتبر شريكاً أساسياً في التمهيد لما أُنجز من خطوات. وربّما تكون إشارة طرفي الاتفاق في البيان الصادر عنهما إلى انتقال الملف لاحقاً بعد خطوات بناء الثقة إلى دائرة صلاحيات ومهمّات وزارتَي خارجية البلدين، تأكيداً من الناحية الايرانية على الدور المحوري الذي سيتولّاه عبد اللهيان في ترجمة الاتفاق دبلوماسياً.