فوجئ الجميع بالاتفاق السعودي – الإيراني على استعادة العلاقات الدبلوماسية خلال شهرين. وفي النص المعلَن من بكين، ليس هناك الكثير ممّا يمكن معرفته. ومن ذلك أنّ وزيرَي خارجية البلدين سيلتقيان لدراسة التفاصيل، وأنّ البلدين الإسلاميّين الكبيرين اتّفقا على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، وأنّ ذلك هو مقتضى القانون الدولي ومنظمة التعاون الإسلامي.
وإلى هذا وذاك جرى اتّفاقٌ على السير في كلّ اتفاقيات التعاون السابقة منذ عام 2001. وقد شكر الوفدان الرئيس الصيني أوّلاً على التوصّل إلى الاتفاق. لكنّهما لم ينسيا شكر جمهورية العراق وسلطنة عمان على مساعيهما الحميدة السابقة.
نعلم أيضاً أنّ المفاوضين من الطرفين سبق لهم أن التقوا خمس مرّات ببغداد خلال عامين، وعدّة مرّات بالعاصمة العُمانية مسقط. كما نعلم أيضاً وأيضاً من العراقيين والعُمانيين أنّه في المفاوضات السابقة كان السعوديون يصرّون على بحث المشكلات، وفي طليعتها التدخّل الإيراني باليمن والاعتداءات على المملكة من جهة اليمن ومن جهاتٍ أخرى مثل حزب الله، بينما كان الإيرانيون يصرّون على أنّ الأولوية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية، وأمّا المشكلات الأخرى فكانوا يقولون تارةً إنّها تُبحث مع الذين تتّهمهم المملكة ولا شأن لهم بها، ويقولون تارةً أُخرى: تعود العلاقات الدبلوماسية ثمّ يكون لكلّ حادثٍ حديث.
المفاوضين من الطرفين سبق لهم أن التقوا خمس مرّات ببغداد خلال عامين، وعدّة مرّات بالعاصمة العُمانية مسقط. كما نعلم أيضاً وأيضاً من العراقيين والعُمانيين أنّه في المفاوضات السابقة كان السعوديون يصرّون على بحث المشكلات
تقدّم المفاوضات في العراق..
يبدو أنّه كانت للمفاوضات الطويلة في بغداد ومسقط بعض الفوائد وإن كانت ضئيلة. فقد انعقدت هدنة بين ممثّلي الحكومة الشرعية باليمن والحوثيين بعد مفاوضات مسقط قبل عام. لكنْ ظلَّ وزراء الحكومة اليمنية يشكون من أنّ اعتداءات الحوثيين في كلّ مكانٍ مستمرّة ضدّ مأرب وضدّ تعز وفي الحديدة وضدّ موانئ تصدير النفط بجنوب اليمن. وما جرى تقدُّم في ملف تبادل الأسرى ما عدا دفعة واحدة. وقبل ثلاثة أشهر رفض الحوثيون تجديد الهدنة على الرغم من جهود المندوب الدولي، وتابعوا الاستيلاء على معظم المساعدات الإنسانية التي تدخل مناطق سيطرتهم، كما أعلنت المؤسسات الدولية التي تتولّى التوزيع والتي انسحبت أخيراً احتجاجاً. وما نفّذوا الاتفاق بشأن تفريغ الناقلة “صافر” أمام سواحل الحديدة التي توشك أن تغرق، فتسدّ المرفأ، وتلوّث البحار.
بعد غيابٍ طويلٍ عن الإعلام ظهر زعيم الحوثيين على التلفزيون مصرّاً على عدم تجديد الهدنة وعلى القتال حتى النهاية، كما أنّ حسن نصر الله عاد في خطاباته المتوالية إلى الهجوم على المملكة وبالطبع على أميركا، وقال إنّه إذا استمرّ هذا الحصار الخانق فإنّه سيُضطرّ إلى الهجوم على إسرائيل. ولذلك فقد ذهبتُ في عدّة مقالاتٍ عن الوضع اللبناني المأزوم من كلّ النواحي، إلى أنّ الميليشيات المتأيرنة في اليمن وسورية ولبنان مأمورة بالتصعيد. وما وجدتُ تفسيراً لذلك إلّا التوتّرات في الحرب على أوكرانيا، التي صارت إيران جزءاً منها بسبب المسيّرات التي تبيعها لروسيا. كما أنّ سمعتها تأذّت كثيراً بسبب الهجمات الإسرائيلية على مواقعها في سورية، ومنها تعطيل مطار حلب أخيراً.
ثمّ أخيراً وليس آخراً الثوران الداخلي في إيران خلال الأشهُر الأخيرة من كلّ الفئات الذي تخلّلته إعدامات كثيرة في أوساط الناشطين البلوش والأكراد. وإذا كانوا قد وجدوا للحوادث الغامضة بالداخل “شبكة” جواسيس إسرائيلية تنفّذها، فإنّهم لم يجدوا حتى الآن “الشبكة” التي تسمّم بنات المدارس.
صحيح أنّ حراكاً إيرانياً تصاعد باتجاه روسيا والصين في الشهور الأخيرة، لكنّ المراقبين فسّروا ذلك بتهديدات الحرس الثوري لأوروبا بأنّ صواريخه الباليستية الجديدة توشك أن تصل إليها إذا استمرّت في إجراءاتها العدوانية التي تأمرها بها الولايات المتحدة.
بعد غيابٍ طويلٍ عن الإعلام ظهر زعيم الحوثيين على التلفزيون مصرّاً على عدم تجديد الهدنة وعلى القتال حتى النهاية، كما أنّ حسن نصر الله عاد في خطاباته المتوالية إلى الهجوم على المملكة وبالطبع على أميركا
أسباب إيران للتراجع
إيران التي اشتدّ الضيق بها ومن حولها معروفة بالإصرار والتصميم، وأنّها على الدوام لديها “مخطّط استراتيجي” تسير عليه ولا تتراجع عنه. وهي كثيراً ما تنسى إسرائيل، لكنّها لا تنسى الولايات المتحدة ولا تنسى العرب، وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية. السؤال الآن ليس: “لماذا أقبلت المملكة على عقد اتفاق”، بل: “لماذا أقبلت إيران”.
فالمملكة تريد السلام وأمن الحدود وإنهاء الكارثة اليمنية التي تسبّبت بعشرات آلاف القتلى، وبعشرين مليون جائع وملايين المهجّرين، وأمّا إيران فإنّها تسعى دائماً إلى الغَلَبة والتطييف وتخريب البلدان والأوطان العربية على وجه الخصوص.
قال وليّ العهد السعودي مراراً، وكذلك وزير الخارجية السعودي، إنّهم لا يريدون إلّا السلام وعلاقات حسن جوار مع الجارة الإسلامية الكبيرة. ولذلك تفاوضوا ويتفاوضون. وإيران تدأب على الخصومة والإيذاء، مع اتّهامات مستمرّة بدون تعليل، وإلّا فما معنى تصريحات الزعيم المسلَّح في لبنان أخيراً؟!
السؤال الصحيح إذن: “لماذا قبلت إيران الاتفاق وفي طليعة موادّه عدم التدخّل في شؤون الآخرين، والإصغاء للقانون الدولي ونداءات منظمة التعاون الإسلامي، وإنفاذ كلّ اتفاقيات التعاون القديمة؟!”.
التقدير أنّ النظام الإيراني الذي يقع في وهدة الانحلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويلوذ بالصين، محتاج إلى هدنة أو انفراجة. ما عاد يستطيع الإنفاق على الحوثيين وعلى الميليشيات في سورية وعلى الخلايا المنتشرة في كلّ مكان، وعلى القضايا المزوَّرة التي ما عاد أحدٌ من شعبه يصدّقها. لقد فعلت العقوبات الغربية فعلها، وبلغ شعبه حدود المجاعة، وما عاد القمع ينفع في إرغام الناس على الهدوء، ولا شرعية يمكن الاعتصام بها للحماية، وأصبحت تدخّلاته الإقليمية في حالة خراب كامل.
إيران التي اشتدّ الضيق بها ومن حولها معروفة بالإصرار والتصميم، وأنّها على الدوام لديها “مخطّط استراتيجي” تسير عليه ولا تتراجع عنه
هل تغيّرت إيران فعلاً؟
سمعت العميد الياس حنّا يقول في قناة “الجزيرة” إنّ “العداوة الإيرانية للمملكة دائمة، وتتخلّلها هُدَنٌ مؤقّتة”.
ما استغربت الاستنتاج، لكنّ التساؤل مشروع: “ألا يمكن أن يكون الإيراني وللمرّة الأولى قد استنفد قواه المادّية وأساطير تصدير الثورة، وفكّر في التغيير، وتطلّع للمرّة الأولى أيضاً إلى الخروج من حروب الاستنزاف التي أدخل فيها الآخرين، لكنّه أدخل فيها نفسه أيضاً؟”.
لقد لاحظت كما لاحظ غيري أنّ النظام انذعر أخيراً (وعلى غير العادة) عندما اتّهمه المراقبون الدوليون بتصعيد التخصيب إلى 84%. وسمعت كما سمع غيري أصواتاً من إيرانيين بالخارج تصرخ: “ماذا يفيدنا السلاح النووي؟ فمنذ الثمانينيات حصل الباكستانيون على القنبلة وما يزالون كما كانوا دولةً ضعيفةً ومضطربةً وشعباً فقيراً وفقيراً جداً”.
الجميع عرباً ومسلمين ودوليّين رحّبوا بالاتفاق، ورجوا من ورائه الخير لمنطقتنا المتعبة بسبب العدوانية الإيرانية والإسرائيلية. الولايات المتحدة رحّب رئيسها وتحفّظ. وإسرائيل تحفّظت ولم ترحّب.
كما سبق القول، لا نعرف الكثير عن بنود الاتفاق الذي عقده ببكين مستشار الأمن القومي بالمملكة وإيران غير ما ذكره البيان. والرئيس الصيني هو ضمانة الاتفاق، والصين لا تضمن ما لا تستطيع حمايته وإنفاذه. والمطلوب من إيران مئة مطلبٍ وأكثر، ومطلب السعودية واحد هو توقّف العدوان على برّ الخليج وبحره، وعلى العرب في المشارق.
إذا كان الإيرانيون صادقين هذه المرّة فسيرتاح اليمنيون والسوريون واللبنانيون.
كاتب مقالة بمجلّة الإيكونومست (24 شباط 2023، ص 41) “متفائل” وساخر، قال إنّ مؤتمر القمّة العربي الذي ينعقد بالمملكة سيشهد “عودة سوريّة للجامعة العربية، وشهر رمضان المبارك سيشهد توقيع اتفاقية سلام بين الحكومة اليمنية الشرعية والحوثيين بمكّة”.
سألتُ نفسي: في لعبة عضّ الأصابع من الذي يسلّم أوّلاً؟ وكذلك فعل موقع “أساس” قبل وبعد في الحديث عن المصالحة اليمنية.
جواب الاستراتيجيين: “المضطرّ أكثر”.
إقرأ أيضاً: لبنان في اتّفاق الصين… وسؤال آرمسترونغ
والذي أراه أنّ المسألة ليست صراعاً بين متباريَين على الحلبة، بل هي حيوات الملايين الذين تصدّعت دولهم ومجتمعاتهم، وبرامج الدولة الكبرى التي تريد النهوض والنموّ والعمران وتدخل في غماره في الحاضر والمستقبل.
فالدخول في اتفاقيةٍ للمهادنة قد تتحوّل إلى سلامٍ لصالح الجميع، إذا صدقت إيران، ليست مغامرةً غير محسوبة. أتصوّر أنّ المنطق العربي يقول وبدون تردّد: “لقد مضينا في سبيل خير شعوبنا وسلامها… حتى الصين”. وهو قرارٌ مستقلٌّ صار معروفاً مَن رحّب به ومَن تحفّظ عليه.
ورسول الله صلواتُ الله وسلامه عليه يقول: “إنّما الأعمال بالنيّات”.