اتّفاقيّة التجارة التركيّة الإماراتيّة: التوقيت والدلالات

مدة القراءة 8 د

قرّرت تركيا تغيير لغتها وأسلوبها وقراءتها لطريقة تعاملها مع الملفّات الإقليمية والتخلّي عن الكثير ممّا رفعت قبل 13 عاماً من شعارات وأهداف كانت مكلفة وموجعة، فوصلت إلى قناعة بأنّ مراجعة سياساتها العربية والإقليمية لا يمكن أن تسفر عن نتائج حقيقية من دون تبريد أجواء التوتّر والتصعيد مع دولة الإمارات العربية المتحدة. هذا هو ملخّص أسباب ودوافع الانفتاح التركي الواسع على الإمارات. القناعة في أبو ظبي تقول أيضاً إنّ الكلّ يتواصل ويبحث عن فرص تهدئة وخفض مستوى التوتّر وتجنّب التصعيد، فلماذا لا يكون هناك مراجعة إماراتية تركيّة لمسار العلاقات؟

 

ارتدادات الزلزال

طغت ارتدادات كارثة الزلزال الذي ضرب مدن جنوب تركيا على حدث بالغ الأهمية في مسار العلاقات التركية الإماراتية التي بدأت تأخذ بعداً استراتيجياً مغايراً في العامين الأخيرين، بعد عقد من الخصومات والتباعد السياسي. أشرف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ونظيره الإماراتي الشيح محمد بن زايد آل نهيان في قمّة عقداها عبر تقنية الاتصال المرئي قبل أيام، على توقيع اتفاقية الشراكة التجارية الشاملة التي تهدف إلى تعزيز الصداقة والتعاون الثنائي، وتفتح الطريق أمام تحقيق أهداف استراتيجية طموحة، أبرزها مضاعفة حجم التبادل التجاري كما قالت القيادات في البلدين.

ما الذي يعنيه هذا التقارب التركي الإماراتي الجديد ومن هو الرابح فيه؟

اتفاقية التعاون التجاري الاستراتيجية البعد التي وُقّعت قبل أيام وهدفت إلى فتح آفاق جديدة للعمل المشترك بين أنقرة وأبو ظبي

أين وكيف بدأ التواصل والحوار مهمّان طبعاً، لكنّ ما بقي في الذهن هو أنّ الانعطافة الأولى بادر إليها مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد بزيارته تركيا في آب 2020، وقد أوجز ما يجري بقوله: “نولي أهميّة لأن يجري الفاعلون المؤثّرون في المنطقة محادثات مباشرة، وأن يتفاوضوا ويحلّوا مشكلاتهم معاً”. ثمّ جاءت زيارة وليّ عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد لأنقرة في أواخر تشرين الثاني 2021 بناء على دعوة من الرئيس التركي مرتبطة بـ”المسار الجديد للعلاقات”، ثمّ توّج الرئيس التركي هذا المسار بزيارته الإمارات في منتصف شباط عام 2022، وتحدّث آنذاك عن خطوات استكمالية ستعقب هذه الزيارة لدفع العلاقات نحو مرحلة جديدة. هذا ولا يمكن تجاهل ما كتبه إردوغان في مقالة له قبل وصوله إلى أبو ظبي من أنّ وقت اتّخاذ المبادرة إلى العمل على التغيير قد حان، وبروز قناعة مختلفة في مراكز صنع القرار التركي بأنّ الانفتاح التركي الإماراتي سيرفع مستوى العلاقات الاقتصادية ويخفّف التوتّر السياسي ويسهّل الذهاب نحو قراءة متقاربة في التعامل مع العديد من الأزمات.

 

تقارب أنقرة وأبو ظبي

لعبت التطوّرات والأحداث في المنطقة والعالم دوراً مهمّاً في التقارب بين أنقرة وأبو ظبي، ومن بين أسباب ودوافع القراءات الجديدة في سياسات البلدين وخطوات الانفتاح السريع كانت المصالحة الخليجية ولقاءات الحوار التركي المصري والتركي السعودي، سياسة إيران في الإقليم، الحرب الروسية الأوكرانية وجهود الوساطة التركية الإماراتية، إلى جانب رغبة البلدين في تحييد الكثير من القضايا الخلافية في سوريا وليبيا وإفريقيا وشرق المتوسط ووضعها في إطار خطة حوار وتفاهمات مبرمجة على مراحل.

أين نحن اليوم؟

اكتسب التقارب الذي بدأ بين تركيا والإمارات العربية المتحدة زخماً جديداً من خلال زيارات ولقاءات متبادلة رسمية أو بعيدة عن الأعين تمّ تفعيلها في الأعوام الثلاثة الأخيرة. حتماً كانت الأولوية لملفّات سياسية واقتصادية وأمنيّة تتعلّق بمسار ومستقبل العلاقات بين البلدين. لكنّ ملفّات الخلاف والتباعد الإقليمي وضرورة معالجة أسبابها وتحويلها إلى فرص للتعاون والتنسيق باتجاه الحلحلة لم تكن بعيدة عن هذا الحوار الجديد أيضاً.

كانت الترجمة العمليّة في الشقّ الاقتصادي وتوسيع التعاون الثنائي وزيادة حجم الاستثمارات وفتح الطريق أمام الشركات التجارية الخاصة في الجانبين. ثمّ رأينا الأمور تتحوّل سريعاً باتّجاه الإسهام المشترك في قضايا إقليمية ودولية عالقة تتطلّب التنسيق والتعاون لبناء السلم الإقليمي والعالمي. كانت وقفة أبو ظبي الاستثنائية إلى جانب تركيا في كارثة الزلزال ذات مفعول وأثر كبير، وقد تمثّلت في تحرُّك فرق الإنقاذ للمساهمة في إغاثة المنكوبين والجسر الجوّي بين الإمارات والمناطق المتضرّرة وحملات التبرّع والدعم المادّي.

إعلان الإمارات تأسيس صندوق استثمار بقيمة 10 مليارات دولار في تركيا يركّز على المشاريع الاستراتيجية وعلى رأسها الطاقة والصحّة والغذاء

كانت الخطوة الثالثة هي اتفاقية التعاون التجاري الاستراتيجية البعد التي وُقّعت قبل أيام وهدفت إلى فتح آفاق جديدة للعمل المشترك بين أنقرة وأبو ظبي. وهناك خطوة مرتقبة ترتبط بتوسيع الشراكة وتعزيز التعاون الدفاعي والأمني بين البلدين.

اللافت طبعاً في المسار التصاعدي الإيجابي للعلاقات التركية الإماراتية هو:

– عدم تأثّر علاقاتهما الاقتصادية بالتوتّرات السياسية. فتقارير وبيانات وزارة الخارجية التركية، تقول إن حجم التبادل التجاري بلغ نحو 8.9 مليارات دولار في عام 2020، وقرابة 7.4 مليارات دولار عام 2019، ونحو 7.6 مليارات دولار عام 2018، مسجّلاً رقماً قياسياً عام 2017 وصل إلى قرابة 14.8 مليار دولار.

– إعلان الإمارات تأسيس صندوق استثمار بقيمة 10 مليارات دولار في تركيا يركّز على المشاريع الاستراتيجية وعلى رأسها الطاقة والصحّة والغذاء، وهو كان الدافع الذي قاد وزير التجارة التركي محمد موش إلى القول إنّ التعاون بين بلاده والإمارات، محفّز للاستقرار الإقليمي ونموذج لباقي دول المنطقة، نظراً لإمكانات البلدين على الصعيدين التجاري والاقتصادي.

– اقتناع أنقرة بأنّ نجاح الإمارات في بناء منظومة علاقات سياسية واقتصادية واسعة عابرة للحدود، لا بدّ من قراءته بطريقة وأسلوب جديدين إذا ما كانت راغبة بالمشاركة الفعليّة في رسم معالم السياسات ولعبة التوازنات الإقليمية والدولية.

– وصول مسار التحوّل في العلاقات إلى إنجاز استراتيجي تحقّق في الثالث من شهر آذار الحالي، وهو توقيع البلدين لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بهدف تعزيز التجارة والاستثمارات المتبادلة بينهما، وسيتمّ بموجبها تطوير علاقات البلدين التجارية من خلال إعفاءات وتحفيزات ضريبية كبيرة، وإلغاء الرسوم الجمركية عن 93% من المبادلات التجارية غير النفطية بين البلدين التي ستصل قيمتها إلى 40 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة كما هو متوقّع. هذه الاتفاقية وصفها سفير الإمارات العربية المتحدة في تركيا سعيد الظاهري بأنّها “ستشكّل محطة تاريخية متقدّمة ضمن مسيرة العلاقات النوعية وحقبة جديدة في مسار التعاون المشترك نحو مجالات أرحب لفائدة البلدين”.

إقرأ أيضاً: إردوغان – السيسي: أسئلة حول اللقاء المؤجل

ترى الكاتبة والإعلامية الإماراتية منى الرئيسي أنّ هناك معطيات في الحياة لا تقبل القسمة على اثنين، كأن لا يُستبدل بالإنسان أيّ أولوية أخرى في نظر أيّ حكومة تريد أن تمسك زمام التنمية الصحيحة، وأن هذه الرؤية غير التقليدية هي التي تقدّمها الإمارات لباقي حكومات المنطقة والعالم لتمكين مجتمعاتهم من النهوض والنموّ. ويقول الكاتب والمحلّل السياسي الإماراتي محمد فيصل الدوسري إن حكومة بلاده تعتبر مستقبل وتطلّعات المنطقة أولوية رئيسية في سياستها الخارجية من أجل أن تنعم الشعوب بالتقدّم والأمن والرخاء. تقاطع الرأيين عند عامل الإنسان وأهمية العلاقات بين دول المنطقة في سياسات الإمارات، لخّص برأينا أيضاً دوافع مهمّة في قرار أنقرة اختيار أبو ظبي لتكون العاصمة الإقليمية الأولى التي تتواصل معها في إطار سياستها الانفتاحية الجديدة على دول المنطقة. إنّ قناعة تركيا بموقع ودور الإمارات الإقليمي والدولي المؤثّر، والفرصة التي قد تقدّمها القيادة الإماراتية لها لتسهيل المصالحة والتموضع التركي الجديد، بعدما وصلت الأمور إلى طريق مسدود في علاقاتها مع العديد من دول المنطقة، ثمّ الاستجابة الإماراتية السريعة للرغبة التركية، هي التي أوصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم من انفتاح وتقارب. تمرّ القناعة المشتركة في البلدين عبر الدور الإقليمي المحوري لهما في التعامل مع العديد من الملفّات في المنطقة، ويمكن ترجمة هذا الدور إلى فرصة استراتيجية ستكون لها ارتداداتها الإيجابية على العديد من القضايا السياسية والأمنيّة الإقليمية في الكثير من خطوط التقاطع الجيوسياسي وستكون لمنطقة الشرق الأوسط الحصة الكبيرة فيها.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

عودة “روكي”: جنون أميركا في ظلّ ترامب

كان هناك وقتٌ، في الزمان غير البعيد، حيث الانتخابات الأميركية كانت تُحكم بالمبادئ: كانت هناك برامج انتخابية، قيم، واحترام للمنصب. ثمّ جاءت سنة 2024، وقرّرت…

قوافل النّازحين… وفكرة “السّلام” المُلتبس

منذ 17 أيلول الماضي يوم شرعت إسرائيل في حربها ضدّ الحزب عبر تفجير أجهزة البيجرز والتوكي ووكي، بدأ النزوح الداخلي من جنوب لبنان وضاحية بيروت…

الكويت: تأكيد الهوية الوطنية لأهلها فقط..

على الرغم من الضجيج في المنطقة وأصداء أصوات الانتخابات الأميركية وما سبقها وتلاها، لا صوت يعلو في الكويت على صوت “تعديل التركيبة السكاّنية”، من خلال…

السّودان: إيران وروسيا تريدان قواعد عسكريّة

يغطّي غبار القصف الإسرائيلي على غزة ولبنان صور المأساة المروّعة التي تعصف بالسودان، أكبر دولة عربية من حيث المساحة. فقد اضطرّ حتى الآن خُمس السكان،…