ثمّة جيل كامل وُلد في منتصف عقد الألفيّة الأوّل لا يعرف “حزب الله” إلا بنسخته المتحالفة مع العونيين. هي حقبة من تاريخ لبنان امتدّت سبعة عشر عاماً، صبغها التحالف السياسي الأطول والأمتن في تاريخ لبنان بين السلاح الوحيد خارج حوزة الدولة والحزب الأقوى تمثيلاً حتى وقت قريب للطائفة المؤسِّسة للكيان.
كان إعلان تفاهم مار مخايل في شباط 2006 فاتحة مرحلة أمسك فيها “حزب الله” بمفاصل الأمن وقرار السلم والحرب، وحتى ترسيم الحدود مع الجوار، فيما أمسك العونيون منذ اتفاق الدوحة 2008 بمفاصل الحكم والحكومات، إن لم يكن بالقرار فأقلّه بالتعطيل.
لا يريد الحزب أن يطوي صفحة التحالف مع العونيين، لكنّ مرحلة صفحة مار مخايل طُويت، وثمّة توازن جديد سيحكم هذه العلاقة، سواء انتخب سليمان فرنجية رئيساً أم لم ينتخب
مار مخايل وتحقيق المستحيل
لم يكن ممكناً لـ”حزب الله” أن ينجز ما أنجز لولا هذا التحالف. على قاعدته خاض حرب تموز 2006 قالباً طاولة الحوار على الجميع، ثمّ احتلّ وسط بيروت لعام ونصف عام باعتصام مسلّح، وفرض الفراغ الرئاسي الأوّل، ثمّ اجتاح بيروت ومدناً أخرى في 7 أيار 2008، ثمّ فرض شروطه في اتفاق الدوحة بعد أسبوعين، ثمّ انقلب على نتائج انتخابات 2009 التي فاز بها فريق 14 آذار، فأسقط حكومة “الوحدة الوطنية” برئاسة سعد الحريري، ثمّ مزّق “إعلان بعبدا” الذي توافقت عليه القوى اللبنانية في الأشهر الأولى لاندلاع الثورة في سوريا، ثمّ ذهب بمقاتليه اللبنانيين إلى سوريا والعراق واليمن ليخوض حروب إيران في كلّ الساحات، ثمّ خرّب العلاقات اللبنانية مع الدول العربية من دون أن يعبأ برأي أحد في الداخل. لم يكن بوسع نصر الله أن يعلن 7 أيار يوماً مجيداً أو أن يتفرّد بقرارات الحرب في الداخل والخارج أو أن يغلق المجلس النيابي أو يعطّل الحكومات لولا الثقة المطلقة بأنّ الظهير المسيحي غير قابل للاهتزاز. أتاح تفاهم مار مخايل تقديم سرديّة مشتهاة لعمامة سوداء تحظى بتفويض مسيحي مطلق يُسقط أيّ توصيف فئوي أو ميليشيويّ للقوّة العسكرية التابعة لإيران، تسليحاً وتدريباً وتمويلاً وتنظيماً.
في الجهة الأخرى، لم يكن ممكناً للعونيين أن يستبدّوا بإمكانات الدولة وتعييناتها ومشاريعها لولا الدعم المطلق من “حزب الله”. ما كان بإمكانهم الاحتفاظ بوزارة الطاقة بعد كلّ الإخفاقات، وتعطيل الانتخابات الرئاسية، والتصرّف بيد مطلقة في الوزارات. قال جبران باسيل في إحدى المناسبات إنّ ما يبدو للآخرين أكثر من حقّنا هو في الحقيقة “تعويض عن 15 سنة كنّا خلالها في الخارج”. وهكذا صار التيار العوني يحسب حصّته في الحكومة مرّتين، مرّة باسم الرئيس ومرّة باسم كتلته، وصارت مقابلة جبران باسيل ممرّاً إجبارياً للدخول إلى وزارة الداخلية وإلى غيرها أيضاً.
لكلّ تلك المزايا والمكاسب، لم يكن متخيّلاً أن يطوي الطرفان تفاهم مار مخايل. وقد كان واضحاً كم تريّث “حزب الله” وكم حاول احتواء باسيل وإدخاله في مشروع رئاسة فرنجية. وربّما هذا ما أغرى رئيس التيار الوطني الحرّ باللعب على حافة الهاوية، مراهناً على أهميّة الغطاء الذي يوفّره للحزب. هكذا، وبعد الاجتماع الطويل مع الأمين العامّ لـ “حزب الله” السيّد حسن نصر الله الذي امتدّ حتى الثانية فجراً، أتى ردّ باسيل بلا احترام لمعايير اللباقة. فاستمع مسؤولو “حزب الله” في الإعلام لكلام حليفهم العالي النبرة في حقّ فرنجية، ولو بصيغة التسريب.
حزب الله والنبرة الجديدة
مشكلة باسيل أنّه ينظر إلى الرئاسة كمسألة مصيرية على المستوى الشخصي والحزبي. ففي ظلّ انحدار شعبيّة حزبه، والكارثة التي انتهى إليها عهد عون، وتقدّم “القوات” عليه في الانتخابات الأخيرة، سيكون مشروعه السياسي برمّته مهدّداً إذا لم يتمكّن من الحفاظ على رجاله في مفاصل الإدارات والمؤسّسات ورفدهم بموجة أخرى من التعيينات. وهو لذلك، وإن سلّم بضعف حظّه الشخصي، فإنّه يفضّل ألف مرّة أن يأتي رئيس تسوية من خارج النادي السياسي على رئيس من داخل النادي، له حزبه ورجاله وطموحه للتمدّد داخل الدولة.
لا يريد الحزب أن يطوي صفحة التحالف مع العونيين، لكنّ مرحلة صفحة مار مخايل طُويت، وثمّة توازن جديد سيحكم هذه العلاقة، سواء انتخب سليمان فرنجية رئيساً أم لم ينتخب. في المرحلة الجديدة، يريد الحزب أن يثبت أنّه تجاوز الحاجة إلى العونيين كركيزة وحيدة للغطاء المسيحي. وربّما ساعده في ذلك تراجع التشنّج السنّيّ – الشيعي، ليس فقط على المستوى اللبناني، بل على مستوى الإقليم ككلّ.
إقرأ أيضاً: تعذّر “تسوية خارجية”… يفجّر توتراً داخلياً
خطاب نصر الله يوم الإثنين ينتمي بأدبيّاته إلى مرحلة ليس فيها سمات “مار مخايل”. ليس “حزب الله” من يعلن اسم مرشّحه ويقول للآخرين “تعالوا نتحاور”. بالإمكان استعادة الخطاب الذي أعلن فيه صراحة ترشيح ميشال عون للرئاسة عام 2014. كان مرشّح الحزب حينها اسماً غير قابل للنقاش، ولو كلّف ذلك إغلاق المجلس النيابي سنين عدداً.
ربّما تكون النبرة المختلفة نتاج اقتناع متأخّر بأنّ السلاح لا يكفي وحده للحكم، وربّما تكون، على النقيض من ذلك، نتاج الاطمئنان النسبيّ بأنّ هيمنة سلاحه على القرار الاستراتيجي ما زالت خارج النقاش.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@