“صحون طائرة” ومنطاد.. يسقطان حمامة

مدة القراءة 7 د

فيما العالم منشغل بالزلازل، اقتحمت “صحون طائرة” السماء الأميركية واختطفت بعضا من الأنظار عن الكوارث المناخية الطبيعية وأقحمت تلك الفلكية “غير المؤكدة” فيها. خرج الرئيس الأميركي جو بايدن “لا ينفي ولا يؤكد” فيما انشغلت إدارته بحالة من الجدل بعد أكثر من أسبوع على اسقاط المنطاد الصيني والذي ادعت واشنطن أنه كان لـ”أغراض التجسس”، ليعقب ذلك إسقاط 3 أجسام طائرة أخرى، وسط توتر متصاعد في العلاقات الأميركية ـ الصينية.

بعد يوم من تصريح الجنرال جلين فانهيرك، قائد القيادة الشمالية الأميركية والدفاع الجوي الفضائي، والذي اعتبر أن قدوم تلك الأجسام من الفضاء “أمر غير مستبعد، ولا يزال قيد الدراسة والفحص”، أجابت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير بشكل ساخر على سؤال حول هذا الشأن: “أريد أن أؤكد فقط أننا نتحدث هنا .. من البيت الأبيض. أعلم أن هناك مخاوف وأسئلة كثيرة، لكن لا يوجد مؤشر على وجود كائنات فضائية أو نشاط خارج الأرض مع الأحداث الأخيرة”. 

يتطلّب عمل الجاسوسية التخفّي المتقن تحت ستار رجال أعمال، ومديري شركات أو مكاتب أبحاث واستشارات أو بعثات علمية أو منظّمات إنسانية

الجاسوس… ليس علنياً

لم يرتدِ الجاسوس يوماً لباساً خاصّاً مميّزاً يدلّ على أنّه جاسوس، ولم تكن الجاسوسية إلّا بلباس متخفٍّ. تطوّرت أعمال التجسّس إلى درجات متناسبة مع مستويات تقدّم التكنولوجيا، ومتماشية مع عصر الاتصالات المتنوّعة السريعة، من خلال طائرات الأواكس، والمسيّرات، والأقمار الصناعية المتعدّدة المهامّ والأهداف التي تدور حول الأرض على ارتفاعات مختلفة ومدارات متنوّعة، وبواسطة طائرات الشبح الخفيّة، والغوّاصات الصامتة في قاع البحار التي تمنع السونار من التقاط أيّ أثر لها، حتى إنّ الفكر المخادع توصّل إلى ترويض بعض الحيوانات للقيام بأعمال التجسّس، ولنا في الدلافين الأليفة عدّة أمثلة، ومنها قيامها بالكشف عن خطط العدوّ وزرع أجهزة التنصّت المتطوّرة في أعالي البحار. وفي وجه من وجوهها كشفت جائحة “كورونا” عمّا يُجرى من دراسات لتطوير دور الحشرات. وأضافت المزاعم الروسية عند بداية الحرب على أوكرانيا أنّ واشنطن وكييف عملتا سرّاً على تطوير أنواع من البعّوض لتحقيق بعض الأهداف .

يتطلّب عمل الجاسوسية التخفّي المتقن تحت ستار رجال أعمال، ومديري شركات أو مكاتب أبحاث واستشارات أو بعثات علمية أو منظّمات إنسانية، بعيداً عمّا يثير الشبهات، ولا سيّما المظاهر العسكرية أو شبه العسكرية. فالمطلوب في عمل الجاسوسية “الوسخ” الظهور بـ”أيادٍ نظيفة” للتغطية المتقنة. 

نجح عالم الجاسوسية في إيجاد وسائل مضادّة لكلّ اكتشاف. فلكلّ تطوّر طريقة مضادّة تحدّ من قدرته وجودته إن لم تمنع تأثيره. وعندما تتصاعد وتيرة الاكتشافات المضادّة يمكن العودة إلى الطرق البسيطة التقليدية لتحقيق المآرب. مثلاً، تطوّرت التفجيرات فأصبحت لاسلكية بواسطة الموجات الخلوية بعدما كانت تُستخدم فيها الطرق البدائية “السلكية”. ومع تطوّر التكنولوجيا والقدرة على “التشويش”، عاد إلى الاستخدام التفجيرُ السلكيّ اليدويّ الآمن، وبعد تطوّر وسائل التنصّت على الهواتف استُغني عنها بالعودة إلى الرسائل الشفهية أو الخطّية المشفّرة أو إعادة أسلوب التواصل القديم بواسطة حمام الزاجل.

 

من الطائرات… إلى الفضاء

في عام 1960 حلّقت طائرة التجسّس الأميركية من طراز “لوكهيد يو – تو”، منطلقةً من مدينة بيشاور الباكستانية بأمر من المخابرات الأميركية، على علوّ مرتفع جدّاً فوق أراضي الاتحاد السوفيتي للاستطلاع وتصوير أماكن مهمّة في مدن عسكرية. أسقط السوفيت هذه الطائرة قبل إنهائها مهمّتها وهبوطها في النرويج. تمّ اعتقال طيّارها فرانسيس غاري باورز، والحصول على صور للمنشآت السرّية بين حطام الطائرة. عندئذٍ تمّ الانتقال إلى التجسّس والتقاط الصور بواسطة الأقمار الصناعية المزوّدة بكاميرات دقيقة.

غير أنّ الأقمار الصناعية المتطوّرة جدّاً، التي فاق عددها عشرات الآلاف (تملك شركة إيلون ماسك وحدها أكثر من 12 ألف قمر)، لم تمنع الصين من العودة إلى أسلوب تقليدي عرفه العالم منذ القرن التاسع عشر، واختبرته اليابان جيّداً في الحرب العالمية الثانية. فقد لجأت بكين إلى المناطيد التي اكتشفت واشنطن أنّ أحدها يحلّق بعلو 80 ألف قدم فوق ولاية مونتانا آتياً من فوق كندا، ووردت أخبار أخرى عن منطاد ثانٍ فوق أميركا اللاتينية.

لم ينفع “الاعتذار” الصيني وقول بكين إنّ مهمّة المنطاد هي مهمّة مدنية (فلباس التجسّس دائماً هو لباس مدني). ولا ينفع زعم الصين أنّ الرياح دفعت المنطاد من جنوب غرب المحيط الهادئ إلى شمال شرقه ووجّهته فوق آلاسكا حيث انحرف نحو كندا وصولاً إلى غرب الولايات المتحدة ووسطها، إذ تبيّن أنّ المنطاد يستطيع المناورة وتغيير مساره والتحليق على علوّ يخفّ فيه تأثير الرياح، ويخضع للتوجيه عن بعد.

تستهجن الصين حملة الاستنكار الأميركية لتعدّيها على سيادة الولايات المتحدة، فيما هي تنتقد يوميّاً مرور البواخر في المياه الدولية (لا الإقليمية في البحر الجنوبي) وفي مضيق تايوان، وتعدّ ذلك “تطاولاً على السيادة”. ولم يُسمع لبكين صوت استنكار لإطلاق حليفتها كوريا الشمالية للصواريخ البالستية فوق أجواء كوريا الجنوبية واليابان، ولم تعتبر هذه الخروقات تصعيداً غير مألوف وتعدّياً على السيادة.

لم ينفع “الاعتذار” الصيني وقول بكين إنّ مهمّة المنطاد هي مهمّة مدنية (فلباس التجسّس دائماً هو لباس مدني)

نهاية زمن “سيادة الدول”

صحيح أنّ مشكلة العالم تكمن في المرض المتمثّل في وهم الدول أنّها تستطيع الحفاظ على “سيادتها المطلقة” في عصر تتناقص فيه السيادة إلى حدّ التلاشي، لكنّ اللجوء إلى المنطاد سببه عجز الأقمار الصناعية عن التمركز فوق هدف محدّد لمدّة طويلة، بعكس هذا البالون.

ألغى “منطاد” الصين زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لبكين التي كانت مرتقبة بعد اجتماعات ولقاءات واتفاقات بين الأميركيين والصينيين، خصوصاً لقاء بايدن مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في جزيرة بالي على هامش مؤتمر العشرين الكبار. ألغى هذا التطوّر زيارة تهدف إلى تحسين العلاقات وإدارة التنافس بين الدولتين وتخفيف التوتّرات في المنطقة “الإندو – باسيفيك”. 

لم تكن زيارة وزير الخارجية الأميركي ستؤدّي إلى حلّ جميع القضايا العالقة بين الدولتين، إلا أنّها كانت ستساهم ولو بحدود معيّنة في تخفيف أجواء التوتّر المتصاعدة منذ زيارة بيلوسي لتايوان، وتزايد المناورات العسكرية والطلعات الجوّية وإبحار الأساطيل، وإنشاء المزيد من التحالفات والتكتّلات لتشمل كلّاً من كوريا الجنوبية وأستراليا واليابان وإندونيسيا والفليبين وفيتنام وماليزيا، وجمعها مع بريطانيا وكندا، وبناء مقاتلات متطوّرة حديثة بالشراكة بين اليابان وإيطاليا وبريطانيا، وزيادة موازنات التسلّح لدى هذه الدول.

إقرأ أيضاً: زلزال تركيا.. طبيعي أو مؤامرة وفساد؟

كان من المتوقّع أن تحمل زيارة بلينكن المرتقبة بوادر انفراجات وتعامل ودّيّ في المسائل التي يمكن التعاون فيها كمسائل المناخ والبيئة، وأن تؤدّي إلى تنظيم التبادل التجاري وإعادة الدفء إلى العلاقة بين الدولتين، ولا سيّما أنّ التاريخ يذكر أنّ دبلوماسية “البينغ – بونغ” أدّت إلى تحسين العلاقة بين بكين وواشنطن، ثمّ إلى زيارة نيكسون التاريخية، وكسب كيسنجر لشهرته الدبلوماسية التي ما يزال يتغنّى بها.

كانت ستفتح بارقةُ الودّ هذه المجالَ أمام حمامة بيضاء، إلا أنّ المنطاد أسقط الحمامة .

لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@

*كاتب لبناني مقيم في دبي

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…