في أغلب الولايات الأميركية، باستثناء واشنطن حيث يجتمع أهل السياسة والإعلام والصحافة والعمل السياسي المجتمعي الحقوقي، تجلس في حانة تراقب الحاضرين، وتحتسي كأساً متحدّثاً مع البارتندر. يسألك من أين أنت؟ وتسأله عن أصله. طبعاً الغالبية الساحقة هناك ليست من أصل أميركي، في بلاد تجمع شتات العالم.
تقول له: من لبنان. فلا يعرف بطبيعة الحال ما هو هذا البلد الصغير. تقول له: الشرق الأوسط. فيهزّ رأسه بودّ كبير، لكن من دون أن تتحقّق لديه أيّ معرفة بما تتحدّث عنه. تحاول الاستعانة بذاكرة المنطقة الجماعية فتقول: زلزال، تركيا، سوريا، عراق، فلسطين، إسرائيل. يهزّ رأسه تأكيداً، لكنّه في العمق بالكاد يعرف أسماء هذه الدول.
القارّة لا الدولة
وهذا ليس استثناءً. فأهل الكوكب الأميركي لا يعرفون فعلاً ما يدور في العالم. هم مشغولون بأمورهم المحلّية والشخصية ومعنيّون أكثر بحيّهم ومدينتهم وولايتهم بدرجة كبيرة وعميقة. مضيافون، ودودون، ومبتسمون دائماً. ولكن ليسوا معنيّين بشؤون البلاد الأخرى، بل وغير معنيّين بالسياسة الخارجية لبلادهم نفسها. بالكاد أصبحوا أكثر تفاعلاً مع القضايا السياسية الخارجية من خلال السوشيل ميديا، ولا سيّما في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي نقل عدداً من قضايا السياسة الخارجية إلى الداخل الأميركي غير المعتاد على مقاربة سياسة بلاده الخارجية.
أن تتعرّف على العقل الأميركي في مقاربة شؤوننا الداخلية أو الإقليمية من داخل البقعة الجغرافية التي تثقل على العقل والقلب بأفكار ومشاعر وتناقضات، لا يمكن أن يكون كالتعرّف على هذه الإمبراطورية من داخل عقلها بكلّ تفرّعاته.
في الحرب الباردة، سطع نجم مصطلح “الاستابلشمنت” في مواجهة التمدّد الشيوعي. فكانت السياسة الخارجية جامعة للأضداد والتناقضات
يقول البعض إنّ واشنطن “قلب العالم”. هناك، الحكومة الفدرالية تعلو على كلّ شيء، لكن هناك في تلك القارّة المترامية تتوزّع خمسون حكومة أخرى على خمسين ولاية، لكلّ منها استقلالية تامّة وحكم ذاتي ووزراء ونواب ومجالس محلّية تتولّى تسيير أعمال الولاية التي تنتخبها.
مخيف هو هذا النظام المتماسك في ما يشبه القارّة لا الدولة. لا يمكن حقّاً إدراكه إلا بجولة تتيح للزائر الاطّلاع على مفاصل القرار. والاطّلاع على كمّ المفارقات الصادمة بين العقل السياسي الذي تتحكّم به نسبة لا تتعدّى 5 في المئة من الأميركيين، وبين الشؤون العامّة التي يُترك للغالبية الساحقة الاهتمام بها باعتبارها قضايا محلّية ملحّة ترتبط بالمواطن بشكل مباشر.
عودة الاستابلشمنت
في الشرح المفصّل للنظام الفدرالي الذي يقوم على حكومة فدرالية لا ترتبط ولا تتدخّل بالحكومات المستقلّة إدارياً ومالياً في الولايات الأخرى التي تحكمها مجالس في ما يشبه اللامركزية الإدارية الموسّعة، لا بد أن تلاحظ تداخل وتكافل السلطات. إذ لا يمكن لأيّ مشروع مهما علا شأنه أن يقوم إلّا على ثلاث ثوابت:
– حكومة الولاية.
– الإدارة المختصّة.
– المجتمع المحلّي المتمثّل في ما نعرفه في لبنان من “جمعيات المجتمع المدني” التي لها وللمجتمع الأهلي أهميّة قصوى. وهنا لا بدّ من الربط قليلاً بين هذا الواقع وبين سياسات الولايات المتحدة في بلادنا ودعمها الـNGO باعتبارها نموذجاً ناجحاً وأساسياً في العمل المحلّي وعاملاً ضاغطاً على الحكومة الفدرالية.
في الحرب الباردة، سطع نجم مصطلح “الاستابلشمنت” في مواجهة التمدّد الشيوعي. فكانت السياسة الخارجية جامعة للأضداد والتناقضات. وكان الاستابلشمنت ثابتاً في السياسة الخارجية. تغيّر الوضع بعدها، فغاب الاستابلشمنت في زمن الحرب على أفغانستان والعراق وغيرها من السياسات التي تعني منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
يعود الاستابلشمنت الأميركي اليوم تحت عنوانين أساسيَّين:
– أوكرانيا.
– الصين.
إقرأ أيضاً: لبنان وأسئلة الانفتاح العربيّ على دمشق
تترتّب على هذين العنوانين ارتدادات على القضايا الأخرى. وعليه يُجمع الحزبان الأساسيّان، الديمقراطي والجمهوري، على مقاربة العناوين ليعود الاستابلشمنت بأبهى حلله ممهّداً ربّما لعناوين أخرى ترتبط بمنطقة النزاع في الشرق الأوسط.
في الجزء الثاني غداً:
بلاد الـ7 دقائق… لوصول النجدة