تكشف الأجواء التي رشحت عن مؤتمر باريس الخُماسيّ حول لبنان، مدى اليأس الدوليّ والعربيّ من الوضع الحاليّ، بحيثُ يبدو الأفق مرصوداً لخِيارين لا ثالث لهما: إمّا الاتفاق على رئيسٍ للجمهوريّة غيرِ منتمٍ لمحور وحكومةٍ تَشرعُ بالإصلاحات الجذريّة المطلوبة والاتفاق مع صندوق النقد الدوليّ، وإمّا إدارة الخراب لفترةٍ طويلة مع ما يحمله ذلك من اضطراباتٍ اجتماعيّة وهزّاتٍ أمنيّة وزلازلَ سياسيّة.
يُمكن تلخيص نتائج مؤتمر باريس الذي ضمّ ممثّلين عن الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر بما يلي:
– العمل على خيارٍ ثالث يُلغي ثنائية سليمان فرنجية – جوزف عون. صحيح أنّ المؤتمرين تجنّبوا تداول أسماء، لكنّ بعض اللقاءات الثنائية تناولتها وكان بينها جهاد أزعور وناجي البستاني.
– قال ممثّل مصر إنّ من المفضّل عدم الإيحاء بإملاءات خارجيّة على اللبنانيين، ومن الضروري عدم ذكر أيّ اسمٍ حاليّاً لرئاسة الجمهوريّة، فسارع ممثّلُ السعوديّة إلى القول إنَّ المملكة بهذه الحالة تؤكّد رفضها سليمان فرنجيّة لأنّه خِيار فريقِ حزب الله.
صحيح أنّ حزب الله الذي لم يُعلن صراحةً بعد ترشيحَه لسليمان فرنجيّة، يبدو متمسّكاً به كخِيارٍ وحيد تماماً كنبيه برّي، لكن لا أحد يستبعد احتمال الخيار الثالث شرط الاتفاق على الثمن المطلوب، في إطار صفقة تشمل عدداً من المطالب
– اقترح البعضُ سلّةً كاملةً للحلّ تشمل رئيساً للجمهوريّة مقبولاً من الجميع ورئيسَ حكومةٍ حقيقيّةٍ قادرةٍ على الشروع بالإصلاحات، لكنّ خيارَ فصل الرئاستين حاليّاً والاكتفاءِ بالتركيز على رئاسة الجمهوريّة حاز غالبية الأصوات.
– في الحديث عن رئاسةِ الحكومة، بدا أيضاً أنّ السعوديّة سعت إلى تخفيف اندفاعةِ فرنسا المؤيّدة لنجيب ميقاتي، وقال ممثّلُ المملكة متوجّهاً إلى نظيره الفرنسي: “إذا كنتم تعتبرون أنّ ميقاتي يحفظ مصالح باريس الاقتصاديّة وغيرها في لُبنان، فإنّ أيّ رئيس حكومة غيره سيقوم بالعمل نفسه”.
– كان واضحاً أيضاً أنَّ قضية حاكم مصرف لُبنان رياض سلامة قد ألقت بظلالها على مؤتمر باريس، فما عادت فرنسا تُخفي مُعارضتها الشديدة له وشملَه بالاتّهامات التي تسوقها ضدّ كلّ الطبقة السياسيّة الحاليّة، وحين اقترح ممثّلُ مصرَ التريّثَ في قضية سلامة مُعتبراً أنَّ شغورَ الحاكمية قد يوازي أو يفوق الشغورَ الرئاسيّ، كان الردُّ الفرنسيُّ قاسياً ضدّ الحاكم، لكنّ اللافت أكثر هو أيضاً الموقف الأميركي الرافض للتمديد لسلامة،حتّى لو أنّ واشنطن تُفضّل تجنيبَ الحاكم أيَّ ضغوطٍ قانونيّة قبل أن تنجلي الأوضاع.
– تولّت قطر مسؤوليّةَ التواصل مع الأطراف المختلفة المعنيّة بالوضع اللُبناني لأنّها على علاقةٍ جيّدة بالجميع، وخصوصاً مع إيران التي رفعت باريس لهجتَها ضدّها على نحوٍ لافتٍ منذ فترة. واقترحت باريس فرض عقوباتٍ على شخصياتٍ سياسيّة واقتصاديّة، لكنّ اقتراحَها هذا لم يلقَ قبولاً عند الجميع، فعمدت إلى تأخير البيان الختامي تعبيراً عن عدم رضاها على كلِّ ما فيه، وكانت ذريعةُ التأخير أنَّ وزيرةَ الخارجية الفرنسيّة كاترين كولونا بحاجةٍ إلى الاطّلاع عليه وهي خارج البلاد. وهذا ما دفع المؤتمرين إلى اعتماد وسيلة تبليغ المسؤولين اللبنانيّين أجواءَ المؤتمر مُباشرةً، وكان من المُفترض أن تتولّى السفيرة الأميركية دوروثي شيا ذلك، لكن انضمّت إليها السفيرة الفرنسيّة في بيروت آن غريّو لأنّ فرنسا هي البلد المُضيف.
كرّر رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي أمام السفيرتين ما كان يقوله في “7 أيار المشؤوم” من العام 2008 للدبلوماسيّين الغربيّين، ومفاده أنّ “المشكلة ليست عندنا وإنّما عند الطرف الآخر، وإذا أقنعتموه بما تريدون وبالانتخاب فنحن جاهزون لتسهيل المهمّة وحاضرون”.
في الحديث عن رئاسةِ الحكومة، بدا أيضاً أنّ السعوديّة سعت إلى تخفيف اندفاعةِ فرنسا المؤيّدة لنجيب ميقاتي
صحيح أنّ حزب الله الذي لم يُعلن صراحةً بعد ترشيحَه لسليمان فرنجيّة، يبدو متمسّكاً به كخِيارٍ وحيد تماماً كنبيه برّي، لكن لا أحد يستبعد احتمال الخيار الثالث شرط الاتفاق على الثمن المطلوب، في إطار صفقة تشمل عدداً من المطالب.
بالمقابل ثمّة من يعتقد بأنّ الأمور لم تنضج بعد، وأنّ من الأفضل انتظار جولة تفاوضٍ سادسة بين السعوديّة وإيران تُساهم (إذا عُقدت) في حلحلة الوضع اللُبناني كما ساهمت سابقاً في إيجاد حلٍّ للحكومة العراقيّة. ويتردّد في أوساطٍ دوليّة رافقت مؤتمر باريس أنّ الأميركيّين أنفسهم باتوا يقولون منذ ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل: “ما عدنا بحاجة إلى وسطاء للتفاوض مع حزب الله، فنحن في أثناء الترسيم كُنّا نعلم أنّنا نفاوضه مباشرة عبر اللواء عباس إبراهيم”.
الأكيد أنّ كلّ هذه التحرّكات الدبلوماسيّة الدوليّة والعربيّة تجري وسط قلقٍ يتنامى من انزلاق الأمور في لُبنان وتفلُّتها ممّا بقيَ لها من ضوابط، فأهل السياسةِ هُنا ما زالوا يُحاربون طواحين الهواء، ويخترعون قضايا هامشيّة، مثل الصدام القضائي-السياسيّ الحالي حول تحرّكات القاضية غادة عون، أو قضية التمديد للّواء عباس إبراهيم التي يُقال إنّ الأمين العام لحزب الله تدخّل شخصيّاً في الساعات الأخيرة لحسمها بالتمديد، أو تضاؤل عدد المسيحيّين في لُبنان الذي أثار جدلاً بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والبطريركية المارونيّة، أو الجلسات الحكوميّة والتشريعيّة أو غيرها.
هي حالةُ اهتراء وتدمير لِما بقي من مؤسّسات الدولة، يعتبرُها البعض مقصودة في فترة إدارة الخراب، بغية الدفع نحو نظام جديد أو الفدرالية، ويرى فيها البعض الآخر (وربّما هو على حقٍّ أكثر) استمراراً لقِصَر نظرٍ سياسيّ، مقرونٍ بموروثات مأساوية تقتضي دائماً التبعية وانتظار الحلول من الخارج، وينظر إليها البعضُ الثالث على أنّها تقطيعٌ للوقت وإدارةٌ للخراب ريثما تنضج الصفقات.
إقرأ أيضاً: نصرالله يُهدّد وإسرائيل تضرب: أتندلعُ الحربُ؟
كم كان الكاتب الموسوعي والوزير السابق جورج قرم مُصيباً حين قال في كتابه “انفجار المشرق العربيّ”: “إنّ لُبنان فَقَد دورَه كهمزة وصلٍ بين الشرق والغرب وبين الإسلام والمسيحيّة، وستغدو إسرائيل هي التي تؤدّي دور الهمزة هذه بين غربٍ يهوديّ-مسيحي هي قاعدته الأماميّة في الشرق من جهة، والشرق الأوسط المسلم من جهة ثانية، فقد اختفت جدوى لبنان كوسيط، لمصلحة ديناميّات مختلفة كليّاً أنتجتها نهاية الحرب الباردة ومرحلة ما بعد حرب الخليج”.
أمّا المُصيبة فتكمن في أنّ الساسةَ الذين أوصلوه إلى هذا الدرك هم المُعتمَدون حاليّاً لإيجاد خلاصٍ له. فكيفَ لجلّادٍ أن يُنقذَ ضحيّةً بعد قتلِها؟
*نقلاً عن موقع لعبة الأمم