“كنت أنزل المرّة تلو الأخرى وأنادي إبراهيم. لكنّ الصوت الذي سمعناه كان لناجٍ تمكّنّا من إنقاذه: رجل مسنّ يقيم مع زوجته في الطبقة الأولى ويُدعى نجاتي. بعد ذلك أحضروا كلاباً مدربة كانت مع فرقة إغاثة فرنسية. استجابة الكلب المدرّب كانت علامة على وجود أموات تحت الأنقاض. وهنا فقدنا الأمل. لكنّنا أصررنا على متابعة الحفر لإخراج إبراهيم وعائلته، فيما أرادت فرق الإنقاذ الانتقال إلى أبنية أخرى. ونتيجة إصرارنا تواصلت أعمال الحفر. عثرنا أوّلاً على ابنَيْ إبراهيم، عمر وشقيقه محمّد الذي كان ينام بقربه. وأبلغنا فريق الإنقاذ بالتوقف عن إخراج الباقين، نظراً لخطورة الوضع. فالمباني القريبة معرّضة للانهيار، وهي تُصدر إشارات بقرب انهيارها، خاصّة مع الهزّات الارتدادية المتتالية. لكنّنا أصررنا على متابعة البحث لإخراج باقي الجثامين ودفنها. والحقّ أنّ المنقذين كانوا متعاونين، لم يتركونا وحدنا. وتمكّنّا من إخراج إبراهيم وزوجته، وبقيت الطفلة دنيز التي لم تتجاوز الخامسة من العمر. وبينما كنت في المستشفى أتابع الإجراءات القانونية للحصول على أذونات الدفن، وصلني خبر العثور على دنيز، فأحضرها عمّاها إلى المستشفى، وأنجزنا الأوراق اللازمة، ثمّ دفنّاهم في مدافن العائلة في مدينة إسكندرون التي تبعد قرابة ساعتين”.
هي قصة علي عوّاد واحدة من قصص كثيرة كان أبطالها شباب من مدينة طرابلس لبّوا نداء الواجب بعد زلزال تركيا. تركوا مدينتهم المثقلة بالهموم والمآسي من أجل اغاثة المنكوبين وبلسمة جراح المصابين.
إغاثة السوريّين والأتراك
علي عواد شاب طرابلسي من محلة القبّة وهو جندي سابق في مغاوير الجيش اللبناني، ولديه خبرة في أعمال الإغاثة والإسعاف، وتربطه قرابة بإبراهيم خلف، الشابّ الطرابلسي المقيم في بلدة سمنداغ بولاية هاتاي التركية، والذي كان مع زوجته وأبنائه الثلاثة من ضحايا الزلزال. فوالدة علي من آل خلف، وهي عائلة لديها جذور تركية، مثل كثير من عائلات طرابلس. وهذا ما كان له أثر في الرِباط العاطفي القويّ بين أهل طرابلس وتركيا، كما أنّه شجّع العديد من الطرابلسيّين على الهجرة إلى “موطن الأجداد”.
ما إنْ بدأت أخبار الكارثة ترد وتتّسع، حتى سارع علي إلى تقصّي أخبار إبراهيم من بعض الأصدقاء والأقارب الأتراك من عائلة يلديز في هاتاي، وهي إحدى الولايات التي أعلنتها السلطات التركية “منكوبة”. وعندما أرسل له أحد أصدقاء إبراهيم صورة للمبنى الذي يقطن فيه تُظهر انهياره بالكامل دون معرفة مصيره، سافر علي إلى ذلك المكان للبحث عنه بنفسه، برفقة عمر، شقيق إبراهيم، على نفقتهما الخاصة، ولحِقَهما شقيقه الآخر مصطفى.
روى علي عواد لـ”أساس” رحلته إلى الديار التركية المنكوبة: “وصلنا أوّلاً إلى أضنة. بحثنا عن سيّارة للإيجار، وعندما لم نوفّق نظراً للأوضاع العسيرة، استعنّا بقريب لنا أقلّنا بسيّارته إلى مدينة إسكندرون في هاتاي. وصلنا إليها وفوجئنا بالمشهد: دمار كامل. الناجون من أهلها خرجوا منها إلى مناطق أخرى، ولم يبقَ إلّا الجثث والخرائب. بتنا ليلتنا الأولى في العراء قرب نار أوقدناها من خشب لفظته المباني. في اليوم التالي لجأنا إلى قريب آخر كي نصل إلى سمنداغ بعدما تمكنّا من الاتّصال بصاحبة المبنى الذي يقيم فيه إبراهيم، وأفادتنا بوجود أصوات تخرج منه، الأمر الذي حفّزنا على العمل بسرعة”. وصل علي وصحبه إلى المبنى، فراحوا ينادون صارخين باسم صديقهم إبراهيم، فلم يسمعوا ردّاً على صراخهم.
وعمّا حصل معهم هناك، قال علي: “استعنّا بإحدى فرق الإنقاذ التركية التي كانت تمرّ قربنا. قلت لهم إنّ هناك صوتاً تحت ركام المبنى، فبدأوا بالحفر. تطوّعت للنزول تحت الركام في مكان الحفر، مزوّداً بجهاز أعطوني إيّاه يستطيع التقاط أيّ صوت مهما كان ضعيفاً أو عميقاً. وعندما تأكّد فريق الإنقاذ من وجود صوت راحوا يحفرون في أكثر من موضع. وقدمت فرق أخرى لتكثيف الجهود، فوصل عدد المسعفين إلى ما يزيد على 200 فرد كانوا يعملون في ركام المبنى المؤلّف من طبقات ثلاث. وكان إبراهيم يقيم في الطبقة الثانية”.
[VIDEO]
زهرة “التوليب” اللبنانيّة
كان إبراهيم خلف يعمل في مصنع كرتون. زوجته وأولاده التحقوا به منذ 3 أشهر فقط. وكان دافعه إلى ذلك انعدام الطبابة في لبنان قبل أيّ شيء آخر. وهكذا كان قدر من غادر لبنان المنكوب أن يقضي وأسرته في نكبة تركيا.
في هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى جهود عناصر الجيش والدفاع المدني اللبنانيين الذين شاركوا بفعّالية في أعمال الإغاثة والإنقاذ في تركيا وسوريا. ومن باب المصادفة، فإنّ فريق الدفاع المدني اللبناني الذي ذهب إلى تركيا للبحث عن أحمد المحمّد تحت أنقاض فندق أوزجان في هاتاي كان في عِداده طرابلسيّ آخر يحمل اسم علي عوّاد أيضاً.
في المقابل، بذل الدكتور وسيم بَكَراكي، رئيس جمعية الثقافة والصداقة اللبنانية – التركية “توليب”، جهوداً كبيرة مع أعضاء الجمعية لمساعدة اللبنانيّين الذين كانوا يبحثون عن ذويهم المفقودين في تركيا. وعائلة بَكَراكي جذورها تركية أيضاً، إنّما من جزيرة كريت التي هُجّرَت منها كما آلاف المسلمين في موجات بدأت أواخر القرن العشرين.
منذ سنوات انتقل وسيم بَكَراكي، طبيب الأطفال وابن طرابلس، للإقامة في إسطنبول والعمل في أحد مستشفياتها. وأسّس بالتعاون مع مهاجرين لبنانيّين عام 2017 جمعية “توليب” التي تُعنى بتقديم المساعدة لكلّ اللبنانيّين الراغبين في الانتقال إلى تركيا للعمل أو الاستثمار أو لمتابعة التحصيل العلمي. وتقوم “توليب” بالعديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية، بهدف توطيد عُرى التواصل بين أبناء الجالية اللبنانية، ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع التركي، وبخاصّة غداة موجة الهجرة اللبنانية إلى تركيا في السنوات الأخيرة. كما تعمل على تأمين بعض فرص العمل للّبنانيّين، ولا سيّما في القطاع التعليمي، ونشر التوعية حول شروط ومتطلّبات العيش هناك، نظراً للصعوبات التي اصطدم بها البعض.
بعد حصول الزلزال، سارعت “توليب” إلى إنشاء غرفة طوارئ جمعت ناشطين لبنانيّين من عدّة محافظات تركية لمتابعة قضيّة المفقودين اللبنانيّين. فقامت بحصر وتنظيم لائحة بأسماء المفقودين والناجين والمتوفّين، وتعميمها على جميع وسائل الإعلام، والتواصل مع الجهات الرسمية التركية المتمثّلة في إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” والهلال الأحمر التركي والمستشفيات وهيئات المجتمع المدني التركي.
تعاونت “توليب” مع رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير، والصليب الأحمر اللبناني، للمساعدة في جلاء أوضاع اللبنانيّين في المناطق المنكوبة. وكانت جهود “توليب”، هذه الزهرة اللبنانية على الأرض التركية، موضع إشادة كبيرة، وخصوصاً من اللواء الخير.