كنيسة اللقلق ولسان العرب
كانت المسيرات الجنائزية تمشي في الليل فيما كان الفتى المشاكس يقرأ مدار السرطان وهو يضحك. كانت مغامرة هنري ميلر قد أنقذته من تاريخ متخيّل لتهبه قوّة حصان مشى بالواقع بقدمين مرتجلتين. لا يزال الارتجال ممكناً. الظلام كلّه في الضفّة الأخرى من النهر، فيما تضع الشمس خدّها على الأعشاب وهي تغنّي مع الأطفال “عيشة بنت الباشا/ تلعب بالخرخاشة”. وكانت الخرخاشة هي جرس الكنيسة التي كان الأب أنستاس ماري الكرملي قد أودع فيها لسان العرب. نسي البغداديون الكرملي ويتذكّرون اللقلق الذي بنى عشّه على برج كنيسته. في سودر تاليا بالسويد التقيت الأب يوسف سعيد. لم يكن يقوى على الوقوف. أشرق وجهه بابتسامة لا يعرفها رجال الدين حين همست قريبته باسمي في أذنه. فرأيت الشاعر أمامي واختفى رجل الدين. اختفى المصلّون حين رأونا نهذي كما لو أنّنا هبطنا من سماء هي ليست تلك السماء التي يتوجّهون إليها بالصلوات. قال لي: “كنت تنام في مكتبته إذاً”، وهو يقصد الأب الكرملي، وأضاف: “ذلك أشبه بغزل البنات. سيكون علينا أن نمدّ بيننا خيوطاً لن يراها أحد”. يوسف سعيد هو راعي قصيدة النثر في العراق. قرأت قصائده في مجلّة “الكلمة” التي أشرف عليها حميد المطبعي ورأس تحريرها موسى كريدي، وكانت تُطبع في مطبعة الغري بالنجف في ستّينيّات القرن العشرين. مات الاثنان، لكن أما تزال مطبعة الغري موجودة؟ ابتسم الأب يوسف سعيد وقال: “في يوم قريب ستتوهّم أنّك لم ترَني بل تخيّلتني”، قلت له: “هل نكتب قصيدة مشتركة ونحن واقفان؟”، قال “سنكتبها بعد الموت”.
عرفت أنّ العراقيين يشيّعيون أنفسهم بأنفسهم. يذهبون إلى قبورهم كما لو أنّهم يزورون قبور أحبّائهم. الموت كما الحياة بالنسبة إليهم حدث افتراضيّ. نحن لا نموت لأنّنا لم نكن أحياء
الجمعة التي لم يرَ فيها أحدٌ أحداً
يا لهول تلك الجمعة. كنت أبحث عن البيت الذي سكن فيه عبد القادر الرسّام في الصابونجيّة حين اندلعت الحرب. كانت ظهيرة سُنّيّة بمساء شيعيّ. وكان داوود اللمبجي قد مات لتوّه، ولذلك صار المعزّون يبحثون عن فطّومة ليعزّوها. يسير يوسف عمر في مقدَّمهم. كان العراق يومئذٍ حيّاً. ما كان أحد يجرؤ على التفكير في عراق ميت. قال لي نوري الراوي: “ستعثر عليه في الزقاق الثاني على اليسار في البيت الرابع على اليمين. سترى أسداً، لكن لا تخف، إنّه أسد مرسوم”. ولكنّ الأفنديّة، وهم أصدقاء فطّومة، سدّوا الطريق. هناك غرام قد غلّف الزقاق بقوس قزحه. حلّقت قدماي وأنا أنظر بدهشة إلى الغيوم التي صارت تتجمّع كما لو أنّها ستبكي. فكّرت في العراق الذي كان يبكي منذ قرون. همس أحدهم في أذني: “أترى ذلك الذي يقف في المقدّمة؟ هو ليس يوسف عمر، بل داوود اللمبجي نفسه الذي نشيّعه”، ثمّ اختفى. يومذاك عرفت أنّ العراقيين يشيّعيون أنفسهم بأنفسهم. يذهبون إلى قبورهم كما لو أنّهم يزورون قبور أحبّائهم. الموت كما الحياة بالنسبة إليهم حدث افتراضيّ. نحن لا نموت لأنّنا لم نكن أحياء. تذكّرت أنّ الرجل الذي كنت أبحث عن بيته كان قد مات قبل عقود وأنّ نوري الراوي كان صادقاً في روايته التي حدثت قبل أن أولد.
كرسيّ سركون بولص
هل هناك أحد يخاف من سركون بولص؟
يقول صاموئيل شمعون إنّه كان يجلس هنا، على هذا الكرسي من غير أن يتحرّك. ولأنّه كسول لم يعمل شيئاً في حياته سوى كتابة الشعر. “إذاً هذا هو كرسي سركون بولص”، قلت لنفسي، “اهتدى الشاعر إلى كرسيّه”.
إقرأ أيضاً: على بعد كيلومتر عاطفيّ من الحريق
في زياراته للندن كان يقيم في بيت شمعون وزوجته ماغي أوبانك. أتذكّر أنّنا قد أُحِطنا في سنوات شبابنا بأسباب مريبة لاختفائه. ذهب إلى بيروت مفلساً فاحتضنه يوسف الخال ونشر قصائده المذهلة في مجلّة “شعر”. من بيروت إلى كاليفورنيا. تعرّف يومذاك على شعراء حركة الـ”بيت” الذين سبق له أن ترجم قصائدهم إلى العربيّة. كان في العشرينات من العمر يوم غادر بغداد. وكان يكتب قصصاً وشعراً حرّاً، ولم يكن قد تعرّف بعد على قصيدة النثر التي صار في وقت لاحق أحد رموزها. يوم تعرّفت عليه في بغداد منتصف ثمانينيّات القرن الماضي كنت على يقين أنّه لن يتذكّرني إذا ما التقيته مرّة أخرى. كعادته كان سكران. غير أنّه كان يقول كلاماً ملهماً. لذلك كانت هالة القداسة لا تفارقه. فالشاعر كان حاضراً فيه في كلّ لحظة. وهو ما جعلني أخاف عليه. كان مدعوّاً إلى مهرجان المربد، ولم يقرأ قصيدة على المنصّة الرسمية، بل كان يقرأ قصائده بعد منتصف الليل على حشد من الصعاليك والمشرّدين والهامشيّين. الشاعر الذي ذهب مشياً إلى مدينة “أين” لم يكن يحفل بالموت الذي اعتقد أنّه تركه وراءه. عام 2007 اتّصل بي الشاعر عقل العويط خوفاً من أن يموت بولص في برلين وحيداً. قلت له مطمئنّاً: “سيموت وحيداً مثل أيّ عراقي”.
*كاتب عراقي