منذ إعادة توحيد ألمانيا في 1990 سلكت النخب الألمانية مسلك العلاقات الودية مع روسيا، واعتبرتها جزءا من السلام والاستقرار العالمي والأوروبي ومفتاح ثبات الحياة السياسية الألمانية. وعززت ذلك حاجة ألمانيا للغاز اللروسي واعتمادها عليه، وتخلي المستشارة السابقة أنجيلا ميركل عن الطاقة النووية.
أما وقد وقعت الحرب الروسية على أوكرانيا، فلم يعد بوسع ألمانيا الهروب، وباتت رماديتها غير مقبولة. وباتت تحتاج الدولة الألمانية إلى جهد إضافي وتعاون نوعي وحراك مختلف، كي تحافظ على أمنها وحلفائها ووجودها.
فهل تنجح ألمانيا رأس حربة أوروبية وللناتو، أم تتحول الى دولة أوروبية مريضة؟
يدور سؤال آخر في الدوائر الدبلوماسية الأوروبية في مرآة الحرب الروسية على أوكرانيا: ماذا تريد ألمانيا من الناتو؟
هناك أجوبة ألمانية على هذا السؤال:
– أن يكون الناتو منظمة فعالة، بشراكة ندية تخلو من التبعية، وتضبط بجدية التصرفات الأميركية.
– أن يعزز دوره باعتباره تحالفا سياسيا (أوروبيا وأميركيا) وفق ضمانات المادة الخامسة من ميثاقه.
وتصر ألمانيا على أفضلية أن يتحول التحالف الأطلسي الى منظمة سياسية قائمة على التعاون المرن، وخاصة مع الولايات المتحدة، لا أن تلعب فيه الدور المسيطر. وتهدف ألمانيا الى الموازنة بين افتقارها الى مشاركة عسكرية، وبين انغماسها السياسي القوي في الناتو مستقبلا.
تصر ألمانيا على أفضلية أن يتحول التحالف الأطلسي الى منظمة سياسية قائمة على التعاون المرن، وخاصة مع الولايات المتحدة، لا أن تلعب فيه الدور المسيطر
الانقلاب الألماني
تقرر في اللقاء السنوي الأطلسي في ستراسبورغ سنة 2009 الاتفاق على ضرورة التوصل الى مفهوم شراكة أطلسية جديدة كليا. تمحور الهدف الألماني الحقيقي، حتى ما قبل الحرب الأوكرانية، على ضبط التصرفات الأميركية، وتوسيع شراكتها الاستراتيجية مع روسيا في المجال الأمني. لكن بزر سؤالان هنا:
– هل تستطيع ألمانيا الموازنة بين خياراتها بعد غزو أوكرانيا؟
– هل تنجح في أن تصبح قوة مواجهة كبيرة من جديد؟
ظهر الخوف الألماني منذ ضمت روسيا القرم، وبروز تقارير محذرة من الحرب البرية. وهذا رفع القلق داخل المؤسسة السياسية الألمانية. لكن القيادة الألمانية توجهت نحو تعميق الشراكة مع روسيا، مدفوعة بأولوية البناء الاقتصادي، الى أن غزت روسيا أوكرانيا، فانقلبت الموازين.
قلب الغزو الحياة السياسية الألمانية رأسا على عقب، وهدد عقيدتها المشرقية الثابتة أوروبياً منذ الحرب العالمية الثانية. وتزعزعت مؤسساتها وادارتها بطريقة واضحة. ثم تحولت الى دولة أوروبية هشة سياسيا ومرتبكة في الخيارات.
عقل ألمانيا براغماتي أوروبي، لكنّ قلبها روسي ويتبع سياسة شرقية متوجسة. وألمانيا تخاف من تاريخها على مستقبلها. ما يضعها أمام واقع صعب جدا: فالثقة بها تتضاءل، وخاصة ثقة أميركا، لأنّ ألمانيا تقول عكس ما تضمر. لذا تبرز أسئلة أخرى:
– هل تغدو ألمانيا رأس حربة الناتو في أوروبا؟ أم الدولة الأوروبية المريضة؟
– ماذا يعني ترؤس ألمانيا القوة المشتركة العالية الجهوزية؟
تواضع القوة الألمانية
خلال الحرب الباردة، تحددت الاستراتيجية العسكرية الأطلسية بما يتناسب مع استقرار الدولة الألمانية. ولم تشكك ألمانيا الغربية حينها في مكانة الولايات المتحدة المهيمنة في الناتو، فرضيت بها كقائدة سياسية وراعية أمنية.
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي أشيعت خدعة تفاؤلية ألمانية وشرقية: أن تكون روسيا الجديدة شريكة استراتيجية للناتو. وواصلت حكومة المستشار السابق هيلموت كول سياسة ألمانيا الغربية بعد توحيدها، وواصلت التعاون مع الولايات المتحدة.
كانت ألمانيا هي المدافع الأوروبي عن الفكرة الأطلسية في تسعينات القرن الماضي. لكنها اتخذت مواقف حذرة من السياسة الأمنية الأوروبية. أعاق هذا تطوير العديد من القضايا، وخاصة تلك المتعلقة بمكانة ألمانيا الموحدة في الشأن الأوروبي والأطلسي، والمرتبطة مباشرة بالصيغة التي تنص على أنه لا يجوز استعمال سلاح الجو الألماني الا للدفاع عن الأراضي الألمانية.
فضحت الحرب على أوكرانيا تواضع القوة العسكرية الألمانية، ومحدودية ترسانتها وقصور واجباتها تجاه أوروبا والناتو. لهذا تواجه ألمانيا عراقيل في تنفيذ خطتها العسكرية، أبرزها في تحولها الى ثكنة عسكرية أميركية، مستفيدة من موقعها الجيوستراتيجي كدولة عبور ومؤازرة أورو – أطلسية. لهذا لم يكن هنالك من بديل عن التنسيق الألماني مع الحلفاء.
كانت ألمانيا هي المدافع الأوروبي عن الفكرة الأطلسية في تسعينات القرن الماضي. لكنها اتخذت مواقف حذرة من السياسة الأمنية الأوروبية
ألمانيا قوة عسكرية كبيرة؟
يشجع المواطن الألماني وبقوة توجهاً يدفع إلى أن تصبح ألمانيا قوة عسكرية متقدمة وكبيرة، رغم العديد من التحديات وخاصة الارث التاريخي الثقيل والمتعلق بالحرب العالمية الثانية والرواسب النازية. وهذا ما يربك سلطتها السياسية ومؤسستها العسكرية في ما يتعلق بتحويل ألمانيا قوة عسكرية قادرة، وتدافع عن “ألمانيا الأوروبية” وعن الاتحاد الأوروبي والشراكة الأطلسية.
لكن تبقى هنالك فكرة مسيطرة:
– توجس العالم من الماضي النازي.
– الخوف من تورط الجيش الألماني في التطرف القومي.
وهذا ما حصلت بوادره في كانون الأول الماضي: اكتشاف خلية “مواطني الرايخ” التي كانت تخطط لانقلاب. وهذا ما أطاح بوزيرة الدفاع كريستين لامبرخت.
وواجهت ألمانيا بعد الحرب الروسية عدة ضغوط:
– سياسية: نتيجة ترددها في القرارات الحاسمة.
– أمنية: بسبب تأخرها عن تقديم المساعدة اللوجيستية.
– اقتصادية: بسبب مشاكل الطاقة.
هذا يعوق الطموح المنادي بتطوير الجيش الألماني، الى جانب عوامل مرتبطة بالقوى الأوروبية، وخاصة بريطانيا، الداعية إلى أن يظل الجيش الألماني على حاله ووضعه التقليدي. فأن تصبح ألمانيا قوة عظمى مجددا أمر غير مستحيل، لكنه يشير الى امكانية سعي ألمانيا إلى استرداد تاريخها المعهود. وهذا يعتبر خطا أحمر في الغرب الأوروبي، وذلك لسببين:
– الخوف من العودة الى نفوذ ما قبل الحرب العالمية الثانية وزمن الامبراطوريات.
– الخوف من امكانية تنسيق برلين مع موسكو في العديد من الأمور. فالسلطة العميقة في ألمانيا تشدد حتى الآن على ضرورة التقارب مع روسيا.
مشروع الناتو الحقيقي
لن يتحقق هدف إيجاد قوة عسكرية ألمانية كبيرة، لأن ذلك يعني مغادرة كل الجيوش الأجنبية ألمانيا. ويرتكز التوجه الحقيقي الخاص بحلف شمال الأطلسي على الاستفادة الجيو بوليتكية من ألمانيا كمحطة للانطلاق نحو الشرق الأوروبي والأوراسي المتاخم لها، بهدف محاصرة روسيا وتطويقها ومنعها من العودة الى الساحة الدولية كقوة عظمى.
لن تتخلى الولايات المتحدة عن نفوذها في ألمانيا. وهذا التزام أميركي منذ الحرب العالمية الثانية. وهنالك أكثر من 20 قاعدة عسكرية أميركية في ألمانيا، وتشير الترجيحات إلى ضرورة بقائها، حتى لو تحولت ألمانيا رأس الحربة الأطلسية، أو ترأست الناتو مستقبلا. وهذا لا تمانعه أميركا رغم استبعاده. لكنه يقلق أوروبا بسبب احتمال تقارب الناتو من خلاله مع روسيا.
إقرأ أيضاً: ألمانيا الجديدة: الحرب دفاعاً عن أوروبا
لكن ماذا يعني تسلم ألمانيا قبادة القوة الأطلسية الأعلى جهوزية؟
لا يعني شيئا بالتكتيك الواقعي والعملي. لكنه مهم استراتيجيا. تكمن أهميته في المصلحة الأورو – أطلسية لمساعدة ألمانيا على خروجها السريع من منطقة ترددها، وتشجيعها وتحفيزها على انغماسها التام في المشروع الأوروبي.
تعتبر ألمانيا مهمة جدا رغم مساوئها بالنسبة لأميركا والاتحاد الأوروبي. فهي تقلب ميزان القوى في أوروبا لصالح الناتو، في حال واصلت خطواتها بوضوح. ولا شك في أنّ منحها هذه الولاية على القوة المشتركة، مقدمة لتحظى بدور متناسب مع حجمها وثروتها. ومن غير المرجح أن تتقدم ألمانيا بملف الترشح الى رئاسة الحلف هذا العام. فحضورها مثير للجدل، بسبب الحرب في أوكرانيا موقعها منها.