السوداني “باش مهندس” عروبة العراق

مدة القراءة 8 د

أدار رئيس الوزراء العراقيّ محمّد شيّاع السّوداني مُحرّكاته لإعادة الحوار بين الرّياض وطهران المُتوقّف منذ أيلول الماضيّ. يُحاول الرّجل استكمال مهمّة لم يحقّق سلفه مُصطفى الكاظميّ في الوصول إلى خواتيمها السّعيدة.

بهدوءٍ يُحاول أن يُفكّك الألغام الكثيرة بين القُطبيْن الإقليمييْن. يُدركُ الرّجلُ أنّ “تبريد الجبهات” بينهما يجرّ على العراق هدوءاً لم ينعَم به منذ سقوط نظام البعث في 2003.

قد يُفاجئ رئيس الوزراء العراقيّ الجميع في المُقبل من الأيّام في حال نجح في عقدِ جلسة حوارٍ سادسة بين المملكة العربيّة السّعوديّة وإيران. وقد يُفاجئ العالم أكثر في حال جمَعَ وزيريْ الخارجيّة الأمير فيصل بن فرحان وحسين أمير عبد اللهيان، اللذين حاولَ الكاظميّ جمعهما في الأشهر الأخيرة من ولايته.

أدار رئيس الوزراء العراقيّ محمّد شيّاع السّوداني مُحرّكاته لإعادة الحوار بين الرّياض وطهران المُتوقّف منذ أيلول الماضيّ. يُحاول الرّجل استكمال مهمّة لم ينجح سلفه مُصطفى الكاظميّ في الوصول إلى خواتيمها السّعيدة

لا شيء مُستبعد. فقد فاجأ السّودانيّ الجميع يومَ تخطّى “العقدة الصّدريّة” ووصلَ إلى رئاسة الوزراء. وفاجأ أكثر يومَ نجح في مهمّته تشكيل حكومة جديدة في العراق وسطَ إعصارٍ سيّاسيّ لم تشهده البِلاد خلال الأعوام العشرين الأخيرة.

وصلَ إلى الحكمِ في لحظة دوليّة – إقليميّة مُعقّدة. حينها كانت إيران تُسهّل ملفّ ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل. وكانت الولايات المُتحدة تبحثُ عمّن يضمن مصالحها في سوق الطّاقة. فكانَ السّوداني هو الخيار الأمثل، فأعلنَ مطلع تشرين الأوّل الماضي أنّ العراق لا يتحمّل الامتثال لقرار أوبك+ بخفض انتاج النّفط.

المُعارض “السّلس” لصدّام

لم يكُن اسم السّودانيّ مثيراً للجدَل منذ سقوط بغداد في ربيع 2003. ولم يكُن من صقور الصّفّ الأوّل بين المُعارضين لنظام صدّام حسين على الرغم من انتمائه إلى حزب الدّعوة ومُشاركته في “الانتفاضة الشّعبانيّة” في 1991.

حافظَ على عروبته في عداوته لنظام صدّام، ولم تتقدّم هويّته المذهبيّة على وطنيّته العراقيّة. وهذا ما ساهم في رفع أسهمه السّياسيّة في جواره العربيّ بعدما تبوّأ رئاسة الحكومة العراقية.

على الرغم من إعدام والده وأفرادٍ من أسرته، خالفَ قدرته ونفوذه في لجنة “اجتثاث البعث” التي أسّسها الحاكم الأميركي للعراق بعد سقوط بغداد بول بريمر في السنوات المُتفجّرة بالميليشيات والانتقام والقتل المضادّ. فقد سلَك مساراً مدنيّاً تصالحيّاً، وحرص على أن لا تكون اللّجنة في عهده منصّة للانتقام، حتّى إنّه واجه أثناء رئاسته اللجنة في 2011 بعض الذين “كتبوا تقاريرَ” أوصلت والده إلى حكم الإعدام، إلّا أنّه آثرَ عدم الانتقام.

يجلِسُ اليوم حاكماً للعراق على نفس الكُرسيّ الذي جلسَ عليه صدّام قُرابة ربع قرنٍ من الزّمن. وصلَ إلى الكُرسيّ بعدما اختار طريقَ الإدارة الطّويل عوضاً عن الطّريق العسكريّ القصير. فقد عمل 20 عاماً في الدولة، فمرّ في كلّ المناصب الإداريّة والقياديّة والوزاريّة التي يُمكن أن يتبوّأها مواطنٌ عراقيٌّ.

يختلف عن كثيرٍ من المسؤولين العراقيين. لا يحمِل مثل مُعظمهم جنسيّة أجنبيّة، ولم يُغادر أرض الرّافدَيْن كما كان حال أغلَب مُعارضي النّظام السّابق.

يحظى برضا صانع القرار في إيران، ولا يجد العرب فيه شخصيّة استفزازيّة مثل نوري المالكيّ.

توسّعَت المواجهات بين الصّدر وأحزاب “الإطار التّنسيقي”، وشهدَت المنطقة الخضراء اشتباكات مُسلّحة بين أنصار الجانبَيْن، حتّى أعلَنَ مُقتدى الصّدر اعتزال الحياة السّياسيّة وفضّ الاعتصام

الإشارات العربيّة الإيجابيّة

دأبَ منذ لحظة وصوله على إرسال الإشارات الإيجابيّة إلى الدّول العربيّة. وقد تجلّت في 4 محطّات أساسيّة:

أولاها: مُشاركته في القمّة العربيّة – الصّينيّة في العاصمة السّعوديّة الرّياض، ولقاؤه وليّ العهد السّعوديّ الأمير محمّد بن سلمان في 9 كانون الأوّل.

ثانيتها: شارَكَ في في القمّة الثّلاثيّة مع الرّئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسي وملك الأردن عبد الله الثّاني على هامش النّسخة الثّانية من “مؤتمر بغداد للشّراكة والتّعاون” في 20 كانون الأوّل الماضي، وأكّدَ التزام بغداد بالحلف الذي يجمعها مع القاهرة وعَمّان.

ثالثتها: إصراره على نجاح بلاده في إدارة بطولة “كأس الخليج العربيّ” التي أقيمَت في مدينة البصرة في كانون الثّاني الماضي، على الرّغم من اعتراض إيران على تسمية السّوداني للخليج بـ”العربيّ”.

رابعتها: في لعبة التّوازنات، لم ينسَ السّوداني تطمين الأميركيين، فصرّح أنّ “بلاده تحتاج إلى بقاءِ القوّات الأجنبيّة”، وذلكَ بعد عودته من طهران ولقائه المُرشد الأعلى عليّ خامنئي، الذي أعطاه “ضوءاً أخضر” لتغليب “مصلحة العراق” وأن لا يلتفت إلى الخلافات بين إيران والولايات المُتّحدة.

من هو محمّد شيّاع السّوداني؟

وُلِدَ السّوداني عام 1970 في العاصمة العراقيّة بغداد لأسرة تنحدِر من محافظة ميسان الجنوبيّة، وكانَ أبوه موظّفاً حكوميّاً متوسّط الحال.

اقتيدَ والده و5 من أفرادِ عائلته إلى الإعدام بسبب انتمائهم إلى حزب الدّعوة الذي حُظِرَ بسبب تأييده للثّورة الإيرانيّة. نشأَ السّودانيّ يتيماً، وعَمِلَ في الثّمانينيّات في البناء في منطقة “الكرخ” ببغداد، التي كانت تُعرَف حينذاك بـ”صدّاميّة الكرخ”.

أتمّ السّوداني دراسته في 1997، وتخرّجَ من جامعة بغداد بشهادة بكالوريوس في العلوم الزّراعيّة وشهادة ماجستير في إدارة المشاريع.

طاله ظلمُ “البعث” مرّةً أخرى، وأُجبِرَ على الخدمة في صفوف الجيش العراقيّ برتبة ضابط، لكنّ تقريراً أمنيّاً تلقّاه الجيش عن انتماء والده إلى حزب الدّعوة كانَ كفيلاً في إعادة تسريحه من الجيش بعد أسبوعيْن من تجنيده.

بعد تسريحه من الجيش، عَملَ في “مديرية زراعة ميسان” مسؤولاً عن زراعة ناحية كميت وعلي الشرقي، ومسؤولاً عن قسم الإنتاج النباتي، وعمل مع منظمة “الفاو” التابعة للأمم المتحدة مهندساً مشرفاً في البرنامج الوطني للبحوث.

مرّ اليوم أكثر من 100 يومٍ على تشكيل حكومة السّودانيّ. لا يُحسَد رئيس الوزراء العراقيّ على وظيفته الأكثر تعقيداً في بلاد الفُراتين بعد 2003. ولا يُحسَد أيضاً على التّوقيت ولا على الظّروف التي تمرّ بها بلاده

سقوط صدّام

تبدّلَت حياة السّودانيّ مطلع شهر نيسان 2003، يومَ كانت فضائيّات العالم تبثّ المشهدَ الشّهير لسقوط تمثال صدّام حسين ذي الـ12 متراً طولاً في ساحة الفردوس في بغداد، ومعه نظام البعث العراقيّ.

في العام نفسه، انتقلَ من موظّفٍ في “مديريّة زراعة ميسان” إلى مُنسّقٍ بين الهيئة المُشرفة على إدارة مُحافظة ميسان وسلطة الائتلاف المؤقّتة التي كانَ يرأسها “الحاكم” الأميركيّ بول بريمر.

في 2004 تبوّأ منصب قائمقام مدينة العمارة، مركز محافظة ميسان. وفي العام التّالي انتُخِبَ السّوداني عضواً في مجلس محافظة ميسان مرشّحاً عن قائمة “حزب الدّعوة” في عام 2005 وأُعيدَ انتخابه في 2009.

بعد فوز قائمة “دولة القانون” بزعامة رئيس حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي عام 2009 في الانتخابات المحلّية لمحافظة ميسان، اُنتُخب محمد شياع السوداني محافظاً للمحافظة في 21 نيسان 2009.

في الفترة بين 2010 و2014، عُيِّنَ السّوداني وزيراً لحقوق الإنسان في حكومة نور المالكي، ثمّ وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية في حكومة حيدر العبادي في الفترة بين عامَيْ 2014 و2018. وفي عام 2016، تولّى منصب وزير الصّناعة، وشغل لفترة منصب وزير التّجارة بالوكالة.

رحلة رئاسة الوزراء

استقال في 2019 من “ائتلاف دولة القانون” الذي كانَ يرأسه نوري المالكيّ. كان اسمه مطروحاً لرئاسة الوزراء بعد استقالة عادل عبد المهدي في 2019، لكنّ اعتراض التيّار الصّدري على اسمه أخرجه من المُنافسة.

أحبَّ السّودانيّ قصائد محمّد مهدي الجواهريّ، وأسّسَ في 2021 تيّاراً سمّاه “الفراتَيْن” تيمّناً بإحدى قصائده التي يُخاطب فيها العراقيّ بـ”ابن الفراتَيْن”. حازَ التّيّار 3 مقاعد في مجلس النّوّاب الحاليّ.

لاحقه الاعتراض “الصّدريّ” بعدَ ترشيحه من قِبَل أحزاب “الإطار التنسيقيّ” لتشكيل حكومة في تمّوز 2022، وذلكَ بعد استقالة نوّاب “الكتلة الصّدريّة” في حزيران.

توسّعَت المواجهات بين الصّدر وأحزاب “الإطار التّنسيقي”، وشهدَت المنطقة الخضراء اشتباكات مُسلّحة بين أنصار الجانبَيْن، حتّى أعلَنَ مُقتدى الصّدر اعتزال الحياة السّياسيّة وفضّ الاعتصام.

إقرأ أيضاً: بن سلمان وخامنئي يفتحان طريق “السوداني” نحو واشنطن؟

هكذا صارَت الطّريق مُعبّدة أمام السّودانيّ. اختار “الإطار التّنسيقيّ” بالتّشاور مع الأحزاب الكُرديّة والقوى السّنّيّة عبد اللطيف رشيد رئيساً جديداً للجمهوريّة خلفاً لبرهم صالح. بادر الرّئيس الجديد إلى تكليف محمّد شيّاع السّوداني تشكيل حكومة.

مرّ اليوم أكثر من 100 يومٍ على تشكيل حكومة السّودانيّ. لا يُحسَد رئيس الوزراء العراقيّ على مهمته الأكثر تعقيداً في بلاد الفُراتين بعد 2003. ولا يُحسَد أيضاً على التّوقيت ولا على الظّروف التي تمرّ بها بلاده، إذ سيكون عليه أن يعمَلُ وسط مئات الملفّات الشّائكة ودواهي السّياسة.

يحتاجُ السّوداني إلى عاملٍ “خارقٍ للطبيعة” ليُنجزَ مهمّةً شبه مُستحيلة تعيد للعراق عافيته. هذا ما يحتاج بدوره إلى ظروفٍ داخليّة وإقليميّة مؤاتية يعملُ هوَ بصمته المعروف على إنضاجها في بغداد بين الرّياض وطهران وواشنطن.

لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@

مواضيع ذات صلة

هدنة الـ60 يوماً: الحرب انتهت… لم تنتهِ!

بعد عام ونحو شهرين من حرب إسناد غزة، و66 يوماً من بدء العدوّ الإسرائيلي عدوانه الجوّي على لبنان، واغتياله الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله،…

ألغام سياسيّة أمام الجيش في الجنوب!

بعدما أصبح وقف إطلاق النار مسألة ساعات أو أيام، لا بدّ من التوقّف عند العنوان الأوّل الذي سيحضر بقوّة على أجندة “اليوم التالي” في لبنان:…

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…