المنطاد الصيني… فوق صواريخ أميركا النووية

مدة القراءة 9 د

أثار الكشف أخيراً عن إخطار الجيش الأميركي الكونغرس الشهر الماضي بأنّ لدى الصين اليوم قاذفات صواريخ باليستية عابرة للقارّات ثابتة ومتنقّلة أكثر من الولايات المتحدة، المزيد من الجدل بين المشرّعين الأميركيين في أفضل السبل لمواجهة طموحات بكين النووية التي كُشف المزيد عنها بعد أزمة منطاد المراقبة الصيني الذي عبر فوق الولايات المتحدة أخيراً وحلّق فوق مونتانا، حيث يُنشر جزء من ترسانة الجيش الأميركي من الصواريخ البالستية العابرة للقارّات.

ترسانة الصين النووية

اعتبر مشرّعون أميركيون أنّ الإخطار الذي أبلغته القيادة الاستراتيجية الأميركية المشرفة على القوات النووية، إلى لجنتَيْ القوات المسلّحة بمجلسَيْ الشيوخ والنواب في 26 من كانون الثاني، وفقاً لصحيفة “وول ستريت جورنال”، كشف حجم طموحات الصين البعيدة المدى. وحثّ المشرعون الولايات المتحدة على تطوير قواتها النووية لمواجهة القوات النووية الروسية الكبيرة وترسانة الصين النووية المتنامية. لكنّ مؤيّدي الحدّ من التسلّح اعتبروا، بدلاً من محاولة التغلّب على القوات النووية للصين وروسيا، أنّ الولايات المتحدة لديها المزيد لتكسبه من خلال محاولة الحفاظ على الحدود التي نصّت عليها معاهدة نيوستارت مع روسيا، ومحاولة جذب بكين إليها وإلى مناقشة الحدّ من التسلّح النووي، لأنّ أيّ جهود لوقف سباق التسلّح يجب أن تضمّ الصين وألّا تقتصر على الولايات المتحدة وروسيا.

يؤكّد مسؤولون وخبراء أميركيون من خارج الحكومة أنّ الولايات المتحدة، التي تقوم بتحديث جميع مكوّنات ترسانتها النووية البرّية والبحرية والجوّية، لديها قوة نووية أكبر بكثير من الصين

وفقاً لوثيقة سياسية أصدرها البنتاغون العام الماضي عُرفت باسم “مراجعة الوضع النووي”، فإنّ الصين، التي رفضت مفاوضات الحدّ من التسلّح مع الولايات المتحدة، في طريقها إلى امتلاك حوالي 1.500 رأس نووي بحلول عام 2035، فيما كان يُقدّر مخزونها التشغيلي بأكثر من 400 بحلول عام 2021. وتشغّل الصين أسطولاً من قاذفات الصواريخ الباليستية العابرة للقارّات، ولديها حوالي 20 صاروخاً تعمل بالوقود السائل مثبتة في صوامع. وهي تقوم ببناء ثلاثة حقول تضمّ صوامع للصواريخ الباليستية العابرة للقارّات لاستيعاب ما لا يقلّ عن 300 صاروخ حديث تعمل بالوقود الصلب.

في المقابل، يؤكّد مسؤولون وخبراء أميركيون من خارج الحكومة أنّ الولايات المتحدة، التي تقوم بتحديث جميع مكوّنات ترسانتها النووية البرّية والبحرية والجوّية، لديها قوة نووية أكبر بكثير من الصين. فقد أبلغت القيادة الاستراتيجية الكونغرس أنّ الولايات المتحدة لديها صواريخ برّية عابرة للقارّات ورؤوس حربية نووية مثبتة على هذه الصواريخ أكثر من الصين. ويشيرون إلى أنّ إخطارات القيادة لا تشمل الصواريخ التي تُطلَق من الغوّاصات والقاذفات البعيدة المدى التي تتقدّم بها الولايات المتحدة على الآخرين.

على الرغم من ذلك، يتساءل معظم المسؤولين والخبراء: هل تخطّط الصين لملء جميع الصوامع بصواريخ باليستية عابرة للقارّات تحمل رؤوساً نووية، أم يُترك بعضها فارغاً ويتمّ ملء البعض الآخر بأنظمة تقليدية؟ ويفترضون أنّ جميع الصوامع ستمتلئ بصواريخ عابرة للقارّات ذات رؤوس نووية خلال العقد المقبل أو نحو ذلك. وقال هانز كريستنسن من “اتحاد العلماء الأميركيين”: “إنّهم يبنون عدداً كبيراً من الصوامع، لكنّنا لا نعرف عدد الصواريخ أو الرؤوس الحربية التي سيضعونها فيها”.

الحفاظ على معاهدة ستارت

يرى هؤلاء الخبراء والمسؤولون أنّ التحدّي الفوريّ للإدارة الاميركية للحدّ من تطوير الصين ترسانتها النووية، كما نقلت “وول ستريت جورنال” عنهم، هو الحفاظ على معاهدة ستارت الجديدة، مشيرين إلى امتناع الولايات المتحدة عن تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى أو إرسال قوات أميركية إلى البلاد لأنّها تريد تجنّب مواجهة مباشرة مع روسيا المسلّحة نووياً.

هذه المعاهدة، التي أُبرمت رسميّاً بين الرئيسين السابقين الأميركي باراك أوباما والروسي ديمتري ميدفيديف في شباط 2011، ونصّت على خفض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الاستراتيجية (العابرة للقارات) لدى البلدين بنسبة 30%، والحدود القصوى لآليّات الإطلاق بنسبة 50%، ودخلت حيّز التنفيذ… تمتدّ لـ10 أعوام تنتهي في 5 شباط. اقترح الرئيس الأميركي جو بايدن تمديدها 5 سنوات أخرى، ولاقى اقتراحه ترحيباً من روسيا، ودعماً من الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

لا تلقى هذه المعاهدة، التي لا تشمل الصين وتنتهي في عام 2026، ترحيب الجمهوريين. إذ يعتبر النائب مايك روجرز، وهو جمهوري عن ولاية ألاباما، ويرأس لجنة القوات المسلّحة بمجلس النواب، أنّ “القيود المفروضة على القوات البعيدة المدى التي وضعتها المعاهدة، تمنع الولايات المتحدة من بناء ترسانتها لردع روسيا والصين، في حين أنّ الأخيرة تتّجه بسرعة نحو التكافؤ مع الولايات المتحدة. لا يمكننا السماح بحدوث ذلك. لقد حان الوقت لنا لتعديل وضع قوّتنا وزيادة قدراتنا على الاستجابة لهذا التهديد”.

أثار الكشف أخيراً عن إخطار الجيش الأميركي الكونغرس الشهر الماضي بأنّ لدى الصين اليوم قاذفات صواريخ باليستية عابرة للقارّات ثابتة ومتنقّلة أكثر من الولايات المتحدة، المزيد من الجدل بين المشرّعين الأميركيين

بالون التجسّس والحرب الباردة

في “وول ستريت جورنال” أيضاً، يستعيد جيرارد بيكر، كبير محرّري الصحيفة ورئيس تحريرها من 2013 إلى 2018، قصصاً من حرب التجسّس خلال الحرب الباردة، فيكتب: “لطالما كانت مهامّ الاستطلاع الجوّي السيّئة التخطيط مصدراً متكرّراً للتوتّر الجيوسياسي خلال الحرب الباردة الأولى. في أيار 1960، أسقط السوفيت طائرة تجسّس من طراز U-2 تابعة لوكالة المخابرات المركزية، كان يقودها فرانسيس غاري باورز، قبل أيام من القمّة المزمعة في باريس. ندّدت الولايات المتحدة في البداية بإسقاط الطائرة، مدّعية أنّها كانت في مهمّة لمراقبة الأحوال الجوّية، وأنّها انحرفت عن طريق الخطأ عن مسارها فوق المجال الجوّي الروسي. كان للحادث عواقب وخيمة على التوتّرات بين الشرق والغرب. وصرخ الزعيم الروسي نيكيتا خروتشوف بشكل مسرحي في اجتماع باريس. وانهارت المحادثات التي كانت تهدف إلى ذوبان الجليد في الحرب الباردة”.

يروي بيكر أيضاً: “ثمّ كان هناك الضابط من سلاح الجوّ الأميركي الرائد تشارلز مولتسبي. في 27 تشرين الأول 1962، وهو كان يقود طائرة أخرى من طراز U-2 أقلعت من ألاسكا في مهمّة لجمع جزيئات في الغلاف الجوّي نتجت من تجربة أسلحة نووية روسيّة حديثة. بعد وقت قصير من إقلاعه في ظروف مناخية قاسية، انحرفت طائرته عن مسارها ووجد نفسه على بعد 300 ميل داخل المجال الجوّي السوفيتي، وأكّدت له ذلك الموسيقى الشعبية الروسية الصاخبة على راديو قمرة القيادة”.

لا يمكن أن يكون التوقيت أسوأ. كان ذلك في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية، بعد أسبوعين فقط من عثور الولايات المتحدة، بفضل مهمّة طائرة تجسّس أكثر نجاحاً، على أدلّة تؤكد وجود مواقع للصواريخ السوفيتية قيد الإنشاء في الجزيرة الكاريبية. كان على وزير الدفاع حينذاك روبرت ماكنمارا مهمّة الاتصال بالرئيس جون كينيدي بعد ظهر ذلك اليوم لإخباره أنّه في هذه اللحظة التي تشهد أزمة حادّة، حيث يمكن أن تؤدّي خطوة واحدة خاطئة من قبل أيّ من الجانبين إلى حدوث محرقة نووية، ارتكب طيّار أميركي سيّئ الحظّ خطأ فادحاً من خلال حشد مقاتلي ميغ السوفييت. كان ردّ كينيدي هادئاً ومحزناً بعض الشيء: “هناك دائماً ابن… لا يفهم الأوامر”.

لحسن الحظّ، تمكّن مولتسبي من الخروج من هناك وإخراج طائرته وتخليص نفسه وطائرته قبل حدوث اعتراض كارثي محتمل. وخلال الأسبوع التالي أبرم الأميركيون والسوفيت صفقة لإنهاء أسوأ أزمة في الحرب الباردة.

المنطاد الصيني

يرى بيكر أنّ الأحداث تشير أحياناً إلى أنّ قادة العالم يحاولون بنشاط إثبات حقيقة قول كارل ماركس إنّ “التاريخ يعيد نفسه، أوّلاً كمأساة، ثمّ كمهزلة”. بالمقارنة مع هاتين اللحظتين من الدراما شبه المأساوية، كان في قصّة منطاد التجسّس الصيني شيءٌ هزليٌّ بعض الشيء. لكنّ التاريخ نفسه يخبرنا أنّ مثل هذه الأحداث يمكن أن يكون لها تأثيرات هائلة على العلاقات الدولية في وقت يتصاعد التوتّر العالمي.

يعتبر بيكر أنّ “التجسّس أمر روتيني. لكنّ مثل هذه الأحداث يمكن أن تعكس وتضخِّم الحالة الذهنية المضطربة للقادة السياسيين في صراع متنامٍ ستُحدّد مساره استجابة الطرفين لهذه الأحداث. لكن قد يكون الشأن الأهمّ هو ما تخبرنا به هذه الحلقة عن تطوّر الفهم المتبادل للقدرات العسكرية الصينية والأميركية، والمخاطر التي يكون كلا الجانبين على استعداد لخوضها لضمان الميزة أو حتى البقاء على قيد الحياة”.

يتابع: “في عام 1960، كانت الولايات المتحدة تشعر بقلق متزايد بشأن القدرات السوفيتية وتخاطر عسكرياً ودبلوماسياً لقياسها. كان مرّ ثلاث سنوات فقط على قيام “سبوتنيك” بإعادة معايرة التقديرات لتوازن القوّة التكنولوجي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. على الجانب الروسي، أدّت حلقة القوى بشكل مباشر إلى أزمة كوبا بعد عامين. بفضل الأرشيف التاريخي، نعلم الآن أنّ خروتشوف تعرّض للهجوم من قبل المتشدّدين في الكرملين. وفقاً لتأريخ ماكس هاستينغز الجديد للأزمة، فإنّ أحد كبار مساعدي خروتشوف، أناستاس ميكويان، وصف تعامل الزعيم السوفيتي مع حلقة القوى بأنّه لحظة كارثية لاستقرار العالم وآفاق السلام. كتب ميكويان بعد سنوات: “لقد كان خطأ خروتشوف هو أنّ خفض التوتّرات بين الشرق والغرب الذي كلّفنا الكثير من الجهد. وقد تمّ تأجيله لمدّة خمسة عشر عاماً على الأقلّ”. وقد أطاح ليونيد بريجنيف بالزعيم الروسي عام 1964.

إقرأ أيضاً: في تركيا وسوريا زلزال سياسيّ أيضاً.. وجناة

لن تكون هناك أزمة في كوبا هذه المرّة. لكن فيما يفكّر شي جينبينغ في موقفه السياسي المحلّي، ويقدّر أيّ فرصة قد يراها في تايوان، ويحسب استعداد الولايات المتحدة للردع والردّ، هل يرفع الزعيم الصيني المخاطر مثل أسلافه في الحرب الباردة؟ هل هو مثل أيزنهاور في عام 1960، مدفوع إلى المجازفة بسبب الخوف من تزايد الحرمان التكنولوجي؟ أم هو، مثل خروتشوف في عام 1962، يتعرّض لضغوط في الداخل لأخذ زمام المبادرة ما دام بإمكانه ذلك؟

“ربّما ليس لدينا 15 عاماً لمعرفة ذلك”، يختم بيكر.

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

إسرائيل ولبنان وسراب الشّرق الأوسط الجديد

يتأمّل الأكاديمي والدبلوماسي اللبناني غسان سلامة الأهميّة التاريخية وتعقيد منطقة الشرق الأوسط، التي لطالما كانت محوراً للطموحات الإمبراطورية والصراعات السياسية. من موقعه على جبل لبنان،…

جيروزاليم بوست: جنوب لبنان وصيدا وصور… أراضٍ يهودية

“جنوب لبنان من وجهة نظر تاريخية، هو في الواقع شمال إسرائيل.. وجذور الشعب اليهودي في هذه المنطقة عميقة”. هذا ما يدّعيه نائب مدير الاتّصالات في…

تريليون دولار لعمالقة “وول ستريت”.. بين الرّياض وأبو ظبي

بعدما كان من بين الشخصيات الرئيسية في المؤتمر السنوي لـ”مبادرة مستقبل الاستثمار” في نسخته الثامنة الذي عقد في الرياض في 29 تشرين الأول الفائت، ظهر…

فريدمان لترامب: كانت المرة الأولى أكثر سهولة

العالم هو دائماً أكثر تعقيداً مما يبدو خلال الحملات الانتخابية، وهو اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.. وإذا كان قد تمّ تجاوز الكثير من…